فجأةً، تذكّر الحزب أنه "حركة حديثة العهد"، وأن أيّ نتيجة، في انتخاباته البلدية الأولى، ستكون جيدة. هذا التواضع المتأخّر، الذي جاء على لسان رئيسه ستانيسلاس غيريني، يبدو قبل أي شيء وسيلة من "الجمهورية إلى الأمام" لاحتواء خسارة باتت محققة في الاستحقاق البلدي. فغيريني نفسه، الذي يقول اليوم إن انتزاع حزبه عشرات من البلدات سيشكل انتصاراً بالنسبة إليه، هو الرجل نفسه الذي كان يتحدث، في يناير/ كانون الثاني الماضي، عن رغبة "الجمهورية إلى الأمام" في "التجذّر في الأراضي" الفرنسية، وفي "جعل التقدمية تنتصر في كل مكان في فرنسا".
هذه اللهجة الجديدة التي تبنّاها رموز الحزب في الأيام القليلة الماضية، ترافقت مع لجوئه إلى عقد تحالفات، يرى أغلب المراقبين في فرنسا أن "الجمهورية إلى الأمام" يسعى إلى حفظ ماء الوجه من خلالها. تحالفات مع اليمين، في الدرجة الأولى، ممثلاً بحزب "الجمهوريون"، الذي بات الحزب الرئاسي شريكاً له في أكثر من 75 قائمة، ومن أبرزها قوائم لرئاسة بلديات كبرى، مثل تولوز، وبوردو، وستراسبورغ، ونيس. وإن دلت هذه التحالفات على تسليم الحزب بعدم قدرته على انتزاعه مدناً وبلدات بمفرده، فإنها تشير، في نظر اليسار وجمهوره، إلى القرابة بينه وبين اليمين التقليدي، على الرغم من ادعاء حزب الرئيس إيمانويل ماكرون تمثيله الوسط، وتكراره أن طموحه هو "تجاوز الانقسام" التقليدي بين يمين ويسار.
ووصف الأمين العام لـ"الحزب الاشتراكي" أوليفييه فور، التفاهمات بين الحزب الرئاسي و"الجمهوريون" اليميني بأنها "منطقية"، و"تكشف عمّا كان متوقعاً" من حزب ماكرون. وأضاف أن رموز الحزب الحاكم، الذين يسيطرون على المشهد السياسي حالياً، مثل رئيس الوزراء إدوار فيليب، ووزير الاقتصاد برونو لومير، ووزير الحسابات العامة جيرالد دارمانان، جاؤوا جميعاً من صفوف اليمين، و"يحملون مشاريع كان يحملها اليمين في السابق".
إلا أن أكبر التحالفات بين الحزب الحاكم واليمين قد رأى النور في ليون، ثاني المدن الفرنسية، حيث أجرى جيرار كولومب، وزير الداخلية السابق وأبرز وجوه الماكرونية السياسية حتى الأمس القريب، تفاهماً مع "الجمهوريون" لتحاصص المقاعد في مجلسي البلدية والمحافظة، بهدف "سد الطريق" على فريق اليسار وحزب الخضر. لكنّ هذا التحالف، ذا البعد الشخصي، لم يرُق إدارة "الجمهورية إلى الأمام"، التي سارعت إلى سحب دعمها لكولومب ولمرشحه لرئاسة ليون، يان كوشرا. وانهالت انتقادات الأغلبية الحاكمة على كولومب، الذي ارتكب، بحسب وزير الاقتصاد برونو لومير، "خطأً سياسياً فادحاً"، فيما وصفت النائبة عن الحزب نتاليا بوزيرف ما قام به كولومب بأنه "مخيّب للآمال" و"غير مناسب لما ينتظره ناخبونا منا".
ولا يأتي هذا الخلاف إلا ليكشف عن ملامح جديدة للأزمة الكبيرة التي تلمّ بـ"البيت الداخلي" للحزب الرئاسي. وهو لن يكون، بأي حال، آخر الخلافات. إذ سرّبت مجلة "لوبوان" اليمينية، الجمعة الماضي، محتوى رسالة داخلية للحزب تنتقد فيها وزيرة الدولة لشؤون المساواة بين الرجل والمرأة مارلن شيابا، إصرار الحزب على الإبقاء على مرشحته الحالية لرئاسة بلدية باريس أنييس بوزان، التي "لم يعد أحد يصدق أنها ستُنتخَب عمدةً لباريس". وتخبر شيابا زملاءها في الحزب بأنها ضد "الكذب على الناس بدعوتهم إلى التصويت لبوزان"، داعيةً الحزب إلى "أن يكون صادقاً في هذه القضايا" مع جمهوره.
وعلى أي حال، فإن شيابا لا تقول في رسالتها شيئاً يجهله متابعو مسار السباق الانتخابي في العاصمة الفرنسية. فمرشحة "الجمهورية إلى الأمام" التي حلّت في الجولة الأولى في المركز الثالث (17 في المائة)، بعيداً وراء العمدة الحالية للمدينة الاشتراكية آن إيدالغو (29 في المائة) ومرشحة "الجمهوريون" اليميني رشيدة داتي (22 في المائة)، تبدو اليوم أكثر هشاشة من أي وقت مضى، خصوصاً أنها تحمل إرث منصبها السابق، كوزيرة للصحة، وعبء إدارتها وإدارة الحكومة لأزمة كورونا.
ويرى بعض المراقبين في بقاء بوزان مرشحةً لـ"الجمهورية إلى الأمام" لبلدية باريس، على الرغم من الخلافات التي نشبت بينها وبين الأغلبية الحاكمة على خلفية أزمة كورونا، تسليماً من الحزب بخسارة محققة في العاصمة، ورغبة في عدم فتح ملف شائك جديد، كهذا، في الوقت الحالي. ومهما يكن، فإن الحزب الرئاسي لم يصنع، في باريس، ما استطاع صنعه من تحالفات في عدد من المدن الكبرى، إذ فشل في إقناع المرشح لبلدية العاصمة وعضوه السابق سيدريك فيلاني، في تشكيل قوائم مشتركة، فيما لم يبدُ متحمساً لمقترح داتي بالاصطفاف وراءها.