حرية الصحافة المنقوصة في تركيا

10 مارس 2017

احتجاج أمام السفارة التركية في برلين يناصر يوجل (28/2/2017/Getty)

+ الخط -
أصدرت محكمة تركية، يوم 27 فبراير/شباط، أمرا بإيداع الصحفي التركي-الألماني، دِنيز يوجيل، مراسل صحيفة دي فيلت اليومية الألمانية، الحبسَ الاحتياطي بتهمة ترويج منظمة إرهابية. وقد أُلقي القبضُ على يوجيل عقب نشره تقريراً عن تسريباتٍ لرسائل البريد الإلكتروني الخاص بوزير الطاقة، بيرات البيرق، صهر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. 

أبدى الإعلاميون، ومنظمات الصحفيين، والساسة الألمان، على اختلاف مشاربهم وألوانهم، استنكارهم الشديد لهذا الاعتقال، ولم يدخروا جهدا في التنديد به بشتى الوسائل والطرق. وقد وصفت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، القرار بـ "المُرّ، والمخيب للآمال"، وبأنه إجراء قاس، وغير متكافئ. وبالحدة نفسها عبّر أيضا وزير الخارجية، زيغمار غابرييل، عن امتعاضه، وأكد أن إيداع يوجيل الحبسَ الاحتياطي "لم يراع فيه حرية الرأي والصحافة"، مشيرا، في الوقت نفسه، إلى أن ثمة ظروفا صعبة باتت تمر بها العلاقات الألمانية- التركية. أما منظمة العفو الدولية فقد انتقدت الاعتقال بشدة، ووصفته بأنه "أمر غير مقبول".
ردة فعل الحكومة الألمانية على حبس مراسل صحيفة دي فيلت، وإن كانت صائبة في ظاهرها، فهي غير مقنعة البتة، لأنها تفتقد إلى المصداقية، وتشوبها شُبهة الدجل، والنفاق السياسي. ففي الوقت الذي يؤكد فيه وزير الخارجية "أن قضية دِنيز يوجيل تلقي ضوءا ساطعا على
الاختلافات الجَليَّة" بين ألمانيا وتركيا "في تطبيق مبادئ دولة القانون، وتقييم حرية الرأي والصحافة"، نجد أن المخابرات الألمانية، حسب تقرير مجلة دير شبيغل، في 25 فبراير/شباط، قد تجسست، منذ 1999، بشكل منهجي على 50 صحفيا أجنبيا على الأقل، منهم صحفيون تابعون لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، ووكالة رويترز، وصحيفة نيويورك تايمز، ووكالات أنباء في لبنان والكويت. وهو ما أثار زوبعة غضب الحقوقيين في ألمانيا، وخارجها، واعتُبر انتهاكا صارخا لحرية الصحافة، وسلوكا منافيا لمبادئ دولة القانون التي ما تنفك تدافع عنها الحكومة الألمانية، وأعاد إلى الأذهان فضيحة تجسّس المخابرات على الصحفيين الألمان في تسعينيات القرن الماضي. وقد استنكرت منظمة مراسلون بلا حدود هذا التصرّف بشدة، واعتبرته "هجوما فظيعا على حرية الصحافة"، أظهر بُعدا جديدا في خرق جهاز المخابرات الدستور. انتقاد الحكومة الألمانية تركيا في هذه القضية على هذا الأساس الهش يجعلها تبدو كالمومس، حينما تخطب في الشرف، ويجعل لسان حال نظيرتها التركية يقول "من كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة".
لم يكن يوجيل الصحفي الوحيد المعتقل في تركيا التي أصبحت تحتل المركز 151 من أصل 180 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، فالحكومة التركية لم تتوان، منذ فشل محاولة الانقلاب، في منتصف يوليو/تموز الماضي، في اعتقال المعارضين المشتبه بانتمائهم إلى جماعة فتح الله غولن، وزجّهم في السجون. وقد أغلقت، إلى حد الآن، حوالي 124 من وسائل الإعلام، وجعلت على الأقل 150 صحفيا وراء القضبان، ناهيك عن الألوفِ المُؤَلَّفَة من العسكريين، ورجال الشرطة، والقضاة، والموظفين وغيرهم. هذا العدد الهائل من المعتقلين يصعب تبريره بإجراءات محاربة الانقلاب فحسب، ويشكك في نوايا الحكومة التركية، ويوحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، خصوصا أن تركيا بصدد تعديل الدستور واعتماد النظام الرئاسي.
استغلال حالة الطوارئ لتكميم أفواه الصحفيين والتضييق عليهم، وإلجام الصحف ووسائل الإعلام، وتسليط سيف قانون مكافحة الإرهاب على رقاب المعارضين، ومخالفي الرأي، واعتقالهم بالمِئات والآلاف، وجعلهم والانقلابيين على حَدٍّ سَواء، سلوك أقرب إلى الاستبداد، وتصفية الحسابات منه إلى مجرد الصرامة في ملاحقة المتورطين في مؤامرة الانقلاب؛
وسيُفضي إلى نتائج عكسية، من شأنها أن تقوّض جهود حكومة حزب العدالة والتنمية في ترسيخ دعائم دولة القانون التي قطعت فيها أشواطاً مهمة. والتراجع الذي بات يطاول الحريات العامة في تركيا سيجعلها تَحِيد، لا محالة، شيئا فشيئا عن قيم الحرية، والديموقراطية، وحقوق الإنسان، وسيدفعها إلى السير خلف الركب، بعد أن كانت في الصدارة على الأقل في هذه البقعة من العالم. وقد أصبحت حكومة تركيا اليوم، في نظر كثيرين ممن كانوا يؤيدونها أمس، لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها في الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط، بعدما كانت في نظرهم بارقة أمل في المنطقة، ومثلا يُحتذى به. فهذا الأسلوب الذي باتت تنتهجه الحكومة التركية بعد الانقلاب أشبه، إلى حد كبير، بأسلوب النظام المصري الذي يكيل تهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين بالمجان لرافضي الانقلاب، ولكل معارضيه.
لتركيا التي تعرضت لخمسة انقلابات عسكرية كامل الحق في حماية نظامها الديموقراطي، وإنزال أقصى العقوبات على الانقلابيين ومن والاهم، لكن محاربة الانقلاب، وحالة الطوارئ لا تطلقان يد الأجهزة الأمنية أبدا للعبث بحرية الصحافة والرأي، أو مصادرتها، ولا تجعلان الحكومة والمسؤولين في حِلٍّ من احترام حقوق الإنسان، وحماية دولة القانون. ولألمانيا بطبيعة الحال الحق في الدفاع عن مواطنيها ومبادئها، لكن هذا لا يتأتّى بالنفاق، وازدواجية المعايير، فحرية الصحافة، كما أكد مدير منظمة مراسلون بلا حدود، كريستيان مير، "ليست مِنَّة من الحكومة الألمانية، وإنما هي من حقوق الإنسان غير قابل للمساومة، يتمتع به الصحفيون الألمان والأجانب، على حد سواء".
30BE0B7F-FB6C-47D5-9BEE-A6E981F2E3E9
30BE0B7F-FB6C-47D5-9BEE-A6E981F2E3E9
عبد الكريم أهروبا

كاتب مغربي يقيم في ألمانيا، عضو في الاتحاد الألماني للصحفيين الأحرار

عبد الكريم أهروبا