فيما بدا أنه ساحة جديدة للصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، عُقدت الأسبوع الماضي في دولة بابوا غينيا الجديدة اجتماعات منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (أبيك) APEC، الذي يضم في عضويته واحداً وعشرين اقتصاداً مستقلاً، من بينها أميركا والصين.
وخلافاً لاجتماعات العقود الثلاثة الماضية، هي عمر المنتدى، انتهت اجتماعات هذا العام لأول مرة بدون إصدار بيان ختامي مشترك، بسبب التعثر في الوصول إلى اتفاق ترضاه الدول الأعضاء.
ولم يكن أدل على فشل الأعضاء في الاتفاق على السياسات المتبناه أكثر من فشلهم في الاتفاق على صياغة جملة واحدة في البيان الختامي تتعلق بالممارسات الحمائية التجارية التي يندفع إليها الاقتصادان الأكبر في العالم.
ألقى رئيس الوزراء الغيني باللوم في فشل المباحثات على ممثلي الدولتين أميركا والصين، وقال للصحافيين "أنتم جميعاً تعرفون العملاقين الكبيرين في الغرفة". وقبل ختام الاجتماعات، طلب الوفد الصيني التواصل مع وزير الخارجية الغيني، الذي كان يقود المباحثات، كونه يمثل البلد المضيف.
حاول الوفد توصيل اعتراضه على صياغة البيان النهائي للمنسق الغيني، فلما تأخر في الرد عليهم، اقتحموا مكتبه وحاولوا الاشتباك معه، قبل أن تتمكن الحراسة التابعة له من إخراجهم من المكتب. أنكرت الحكومة الصينية بالطبع الواقعة، لكن أكثر من صحيفة عالمية ذكرتها ضمن تغطيتها لاجتماعات المنتدى.
الوفد الصيني اعترض على البيان النهائي الذي كان يندد بصورة غير مباشرة بالممارسات الصينية، بعد أن نجحت الولايات المتحدة في كسب تضامن العديد من الاقتصادات الممثلة في المنتدى، نتيجة لعدوانية الصين التجارية التي ظهرت في الدعم الحكومي للشركات الصينية.
ورغم الخلاف الذي يظهر للعيان على أنه مرتبط بالعلاقات التجارية بين البلدين، بعد أن تسببت صادرات الصين للولايات المتحدة في أكثر من ثلثي عجز ميزانها التجاري الذي بلغ العام الماضي حوالي 750 مليار دولار، إلا أن العالمين بالأمر من الجانبين يدركون أن هناك سبباً آخر وراء العدوانية التجارية الأميركية الظاهرة للعيان.
ففي مارس / آذار من العام الحالي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لأول مرة نيته فرض تعريفات جمركية على واردات بلاده من بعض السلع، ومن بعض البلدان، بنسب وصلت إلى 25% من قيمة الواردات في بعض الأحيان.
وجاءت قرارات ترامب في دقائق معدودة بعد أن اطلع على دراسة صادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، توضح أن الصين حرمت الولايات المتحدة الأميركية من إيرادات تقدر بحوالي 600 مليار من الدولارات على مدار العشرين عاماً الماضية، بعد أن أضاعت على المواطنين الأميركيين آلاف الوظائف، من جراء سرقة مواطنيها وشركاتها لحقوق الملكية الفكرية، والتكنولوجيا الحديثة، والأسرار التجارية للولايات المتحدة.
ورغم توقيع الصين والولايات المتحدة اتفاقاً في عام 2015، تعهدتا فيه بعدم ممارسة أو تسهيل السرقات الإلكترونية أو الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية، إلا أن وزارة الخزانة الأميركية أصدرت قبل فترة تقريراً مفصلاً، في 215 صفحة، قالت فيه أن تحقيقاً موسعاً قامت به، أكد وجود حالات متعددة استمرت فيها الصين في القيام بالتجسس الإلكتروني الاقتصادي على الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين، أي بعد توقيع الاتفاق.
ورغم كل تلك الحقائق التي يعرفها الصينيون قبل الأميركيين، لم يستسلم الوفد الصيني في اجتماعات منتدى (أبيك) APEC، ولم يسمحوا بصياغة البيان الذي يشير على استحياء لبعض الممارسات الصينية، دون حتى ذكر اسم الصين. وعلى العكس من ذلك، فقد أظهرت الصين "العين الحمراء" خلال الاجتماعات، معتمدة على وعود باستثمارات ضخمة في البنية التحتية في بلدان المنتدى الفقيرة، ومنها على سبيل المثال بابوا غينيا الجديدة.
الأداء العدواني للوفد الصيني، والذي ظهر في أكثر من مناسبة سابقة، ارتبطت جميعها بمفاوضات سياسية واقتصادية وتجارية، يعكس تفانيهم في التمسك بمصالح دولتهم، وهو ما أرجعه كثير من المحللين، ضمن عوامل أخرى، لمحاولة إرضاء الزعيم الصيني شي جينبينج. لم يكتف الصينيون بالاستسلام للنظام الشمولي الذي يحكمهم، وانما أظهروأ لنا جانباً مضيئاً لتلك النظم، حيث يبذل المسؤولون قصارى جهدهم، خوفاً على رقابهم، قبل أن يكون خوفاً على مصالح بلادهم.
وفي أنحاء أخرى من المعمورة، نرى مسؤولين يزيدون من وطأة الحكم المستبد، ويعمقون من أزمة الكبت والتضييق على الحريات، ويمارسون أسوأ أنواع الفساد في بلادهم، بينما يتخاذلون في المعارك الخارجية ويتنازلون عن الحقوق ويخونون الأمانات التي أودعتها شعوبهم.
لم نسمع لهم صوتاً بعد فرض ترامب تعريفات جمركية على واردات بلاده من الصلب والألومنيوم مع أنهم من كبار مصدريها للولايات المتحدة، ويناديهم للتدخل في الأسواق لمنع ارتفاع أسعار النفط والغاز فيلبون النداء طواعيةً، رغم أن مردوداته تمثل شريان الحياة بالنسبة لهم، ناهيك عن استنزافه لهم من خلال مبيعات السلاح التي لا يحتلون مواقع صدارة إلا في طوابير المشترين لها ضمن دول العالم المختلفة.
فهل نتعلم من حروبهم التجارية؟ أم أن الدرس قد انتهى في أوطاننا؟