تلقى الثلاثيني خالد عواد اتصالاً ادعى عبره المتحدث، بأنه يمثل منظمة الصحة العالمية، ويجري مسحاً للأسر في قطاع غزة، من أجل تقديم مساعدات صحية وغذائية، تزامنا مع الانتشار المفاجئ لفيروس كورونا في القطاع المحاصر منذ 13 عاماً.
لكن تدرج الأسئلة ومحاولة المُتصل الحصول على معلومات عن الجيران، أقلق عواد الذي امتنع عن الإجابة، وأغلق الهاتف في وجه المتصل، وهو تصرف سليم بحسب إفادة مصدر أمني مطلع رفض الكشف عن هويته لكونه غير مخول بالحديث للإعلام، إذ إن جهاز الأمن الداخلي رصد اتصالات مشبوهة، بهدف التجسس تحت ذريعة مساعدة الأسر في ظل جائحة كورونا.
وأبلغ 50 شخصا بتكرار ما جرى لعواد معهم بحسب المصدر الأمني، والذي أوضح أنه تم تتبع تلك الاتصالات واتضح أن مصدرها الاحتلال، لتصدر إرشادات بتجنبها، وعدم التعاطي معها، قائلا: "الاحتلال استغل انشغال الجهات الحكومية بمحاولة وقف تفشي الوباء للتجسس وجمع المعلومات".
مرحلة حرجة
أعلن وكيلا وزارتي الصحة والداخلية بغزة الدكتور يوسف أبو الريش واللواء توفيق أبو نعيم، أن غزة دخلت أعتاب مرحلة جديدة وخطيرة في مواجهة كورونا، إذ بدأ الأمر بالإعلان عن تسجيل أربع إصابات داخل مناطق سكنية مكتظة في الرابع والعشرين من أغسطس/ آب الماضي، لكن سرعان ما وصل العدد إلى 463 مصاباً خلال عشرة أيام فقط من غير المحجورين صحيا والعائدين من الخارج والذين بلغ عدد الإصابات بينهم 118 حالة حتى مساء الثالث من سبتمبر/أيلول الجاري.
وتعاني غزة من واقع متردّ، في ظل ضعف الإمكانات الصحية، من حيث قلة عدد الأسرة إذ يوجد في القطاع 34 مستشفى، بقدرة 3049 سريراً، تدير وزارة الصحة منها 2343 سريراً وتصل نسبة إشغال مشافي القطاعين الخاص والعام إلى 95%، كما يوجد 93 جهاز تنفس صناعي لدى الوزارة 70% منها مشغولة للمرضى العاديين، ويمنع الاحتلال إدخال أجهزة ومعونات طبية، بما يجعل من مواجهة فيروس كورونا مهمة شديدة الصعوبة والخطورة، وفق إفادة سلامة معروف رئيس المكتب الإعلامي الحكومي، والناطق باسم وزارة الصحة الدكتور أشرف القدرة.
ورغم الصعوبات السابقة، تم تجهيز 100 سرير عناية مركّزة متصلة بنحو 30 جهاز تنفس صناعي، في مستشفيي العزل "غزة الأوروبي" "والصداقة التركي" المخصصين لعلاج مرضى "كورونا"، بينما أكد مدير مكتب منظمة الصحة العالمية بقطاع غزة، الدكتور عبد الناصر صبح، أن هناك مساعي لإدخال 40 جهاز تنفس صناعي جديدة، لكن الأمر يستغرق وقتا بسبب شح الأجهزة عالميا، إضافة لإجراءات النقل والتنسيق مع الاحتلال من أجل إيصالها، قائلا: "يحتاج قطاع غزة في المرحلة الأولى لانتشار الوباء إلى 140 سريراً مزودة بأجهزة تنفس صناعية، على أن يتم زيادتها مع تطور الحالة الوبائية".
وسجل منحنى الإصابات في القطاع المحاصر تزايدا سريعا رغم إجراءات الحظر، فبعد أن كانت الإصابات اليومية تتراوح ما بين 10و15 حالة في الأيام الأولى، قفز العدد إلى 30 إصابة يومياً بعد أربعة أيام من تطبيق الحظر في 25 أغسطس/آب الماضي، ثم إلى نحو 100 إصابة يوميا بعد عشرة أيام من تطبيقه، وفقا لبيانات التقرير اليومي للحالة الوبائية الصادر عن وزارة الصحة.
لكن مجهودات وزارة الصحة على مدار ستة أشهر، عبر نظام الحجر الإلزامي لمدة 21 يوماً للعائدين من الخارج، كي لا يتسلل الفيروس للقطاع المحاصر، لم تمنع تفشيه في بقعة جغرافية صغيرة تبلغ مساحتها 365 كيلو مترا مربعا ويقطنها 2 مليون شخص، بواقع 5531 فردا لكل كيلو متر مربع، وفق أحدث تقرير سنوي صادر عن مركز المعلومات بوزارة الصحة في عام 2019، إذ يُصنف القطاع بأنه ثالث أعلى مناطق العالم كثافة سكانية، وفق بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني، وبحسب أبو الريش فإن قدرة الأجهزة الصحية في غزة لا تستطيع التعامل مع أكثر من 2000 إصابة نشطة في آن واحد، و 280 إصابة يومية، وغير ذلك سنكون أمام مأزق، وهو ما يعلق عليه أشرف القدرة، قائلا :"إن ازدياد تسجيل الإصابات في القطاع غزة، ينبئ بمآلات وخيمة".
وصول غامض
اكتشفت وزارة الصحة في غزة تفشي الوباء بعد نتائج فحوص مستشفى المقاصد بالقدس المحتلة لأم غزية مرافقة لابنتها المريضة وصلتا إلى المستشفى في التاسع عشر من أغسطس، وجرى الاتصال بوزارة الصحة بغزة، التي جمعت عينات من أقرباء السيدة، واكتشفت إصابة أربعة منهم، ومن ثم بدأت بؤر الإصابة تتفشى وتتكشف.
ويتداول المعنيون سيناريوهات مختلفة لدخول الوباء إلى القطاع، منها خطأ بشري خلال نقل وحجر القادمين من الخارج، أو تسلل أشخاص من خلال الحدود التي لا يمكن السيطرة عليها بشكل كامل، وفق ما يؤكده الدكتور أبو الريش، والدكتور مجدي ضهير مدير عام الرعاية الأولية ومسؤول الطب الوقائي بغزة، واللذين لفتا إلى أنه لم يتم حتى الآن رسم خارطة وبائية كاملة للفيروس، وذلك بسبب وجود أكثر من بؤرة في شمال القطاع ومدينة غزة، وأحياء الشيخ رضوان والشاطئ والتفاح والرمال والنصر بمدينة غزة، ومخيمي البريج والمغازي وسط القطاع، ومحافظتي رفح وخان يونس جنوباً، وهو ما تطابق مع تصريح الناطق باسم وزارة الداخلية إياد البزم، الذي أكد أن عدم الإعلان عن الخارطة الوبائية يرجع إلى عدم التوصل حتى الآن لمصدر الوباء، وهو ما يشى بارتفاع منتظر في عدد المصابين وفق توقعات منسق اللجنة الوبائية في وزارة الصحة بقطاع غزة يحيى عابد، وأشرف القدرة، والذي قال إن: "عدد المخالطين للمصابين كبير".
قصور في أجهزة الفحص
لا تتوفر في غزة غير 4 أجهزة فحص "PCR" للكشف عن فيروس كورونا، وهي قادرة في حال عملت الطواقم على مدار الساعة وتوفرت مسحات، على إجراء ما بين 1500-2000 فحص يومياً في ظل أن ثمة آلاف المسحات سُحبت من مخالطين، تنتظر دورها للفحص، بحسب القدرة، والذي لفت إلى أن اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة سلمت وزارة الصحة في القطاع جهازا خامسا حديثا، يعمل على تسريع إجراء الفحوصات.
وفي الأيام الأولى لظهور الوباء وتفشيه بين أفراد المجتمع كانت الوزارة تجري 1000 فحص يوميا، لكنّ ثمة نقصا حادا في "مسحات الفحوصات"، بحسب وزارة الصحة والتي ناشدت جميع الجهات الفلسطينية والدولية من أجل توفيرها، وأجمع كلّ من صبح والبزم والقدرة على أن احتواء الفيروس يحتاج إلى التزام الحجر وعدم المخالطة، وهو ما أكد عليه الدكتور نبيل العيلة، أستاذ الأحياء الدقيقة والفيروسات بجامعة الأقصى بغزة، لكن إبراهيم عامر وأحمد الشيخ اللذين يقطنان مخيم رفح، يردان على ذلك بالقول: "من المستحيل البقاء في المنازل التي لا تزيد مساحة معظمها على 65 مترا مربعا، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، ووصل الكهرباء لعدة ساعات يومياً، بينما طالب 12 غزيا التقتهم "العربي الجديد"، ويعملون سائقي سيارات عمومية وأصحاب محال تجارية وعمالا، بضرورة مساعدتهم بعد أن فقدوا أرزاقهم بسبب الحجر، خاصة أنهم يعتمدون على توفير مصدر دخل لإطعام عائلاتهم يوما بيوم".
وبلغت نسبة الفقر والبطالة في القطاع 75%، فيما يصنف 70% من سكان القطاع بأنهم غير آمنين غذائيا، وفق بيانات نشرتها وزارة التنمية الاجتماعية الحكومية في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، بينما قالت الناطقة باسم الوزارة في غزة عزيزة الكحلوت، إن وزارتها لديها خطة لمساعدة 50 ألف أسرة متضررة من فرض حظر التجوال.
التزام محدود
رغم قرارات وزارة الداخلية في غزة فرض حظر تجوال شامل على القطاع، داخل مناطق سكنية مكتظة، إلا أن معظم الشوارع والأحياء غصت بالسكان، ما يجعل إمكانية تنقل وتفشي الفيروس قائمة، خاصة في المخيمات والأحياء المكتظة وفق ما رصده معد التحقيق خلال ثلاث جولات ميدانية.
وانتقلت وزارة الداخلية إلى مرحلة تقسيم المدن، وإغلاق أحياء مربعات سكنية كاملة، وحتى بنايات، بحسب ما قاله البزم، مبينا أن هناك تدرجا في تشديد الإجراءات حسب درجات تفشي الوباء في كل منطقة، إذ صنفت مناطق القطاع إلى حمراء وصفراء وخضراء، وفق درجة انتشار الوباء، لتعد منطقة الشمال الأعلى انتشاراً، تليها مدينة غزة، ثم وسط القطاع، وأخيرا جنوبه الأقل انتشاراً.
وتابع البزم: "أغلقنا شوارع بسواتر ترابية، وجهزنا أنفسنا لمرحلة طويلة من إجراءات مواجهة الفيروس"، لكنه أكد أن هذه الحالة لن تستمر إلى ما لا نهاية، وما يحدث حالياً هو محاولة كسر موجة الوباء، وقرار حظر التجوال اضطراري، ويكلف الكثير من الطاقات والنفقات.
ضغط كبير على الإمكانات المحدودة
على مدار يومين ظلت العشرينية منى ياسين تواصل الاتصال على الأرقام المخصصة لوزارة الصحة، لإبلاغهم بأنها تشعر بأعراض قد تكون ناجمة عن إصابتها بفيروس كورونا، وبعد أكثر من عشر محاولات، تحدثت ياسين إلى الموظف، الذي أخذ بياناتها، لكنها انتظرت خمسة أيام، حتى تم أخذ العينة منها وثبوت إصابتها بالفيروس، ومن ثم نقلها لمستشفى "الوبائيات" الذي وصفت غرفه بالمكتظة.
شكوى ياسين واحدة من شكاوى عديدة رصدت "العربي الجديد" عشرا منها، فخطوط الوزارة مشغولة على الدوام، حيث أجرى معد التحقيق العديد من المحاولات للوصول للمركز دون جدوى، بينما يقول القدرة في أول أيام الحظر "24و25و26 أغسطس" تلقت الخطوط30 ألف مكالمة، واستمرت الاتصالات بنفس الوتيرة اليومية، وهناك مساع لتوسعة الخطوط.
لكن الأخطر هو أن ظهور الفيروس أفقد وزارة الصحة جزءا من قدرتها على علاج المرضى، وقلص عدد الأسرة المتاحة في المستشفيات، إذ اضطرت الوزارة لإغلاق ثاني أكبر مستشفى على مستوى قطاع غزة "مستشفى غزة الأوروبي" بمحافظة خان يونس، وتحويله لمركز علاج لمرضى كورونا، ونقل أقسامه وأجهزته، لمستشفيات أخرى مثل ناصر والشفاء الحكوميين. ويقول مدير مستشفى "الوبائيات" الدكتور يوسف العقاد: "تلقينا حتى مساء الثالث من سبتمبر242 حالة مصابة بالفيروس، من كافة مناطق قطاع غزة، إضافة لوجود نحو 150 حالة في مستشفى الصداقة التركي غرب غزة، الذي افتتح كمستشفى ثان للوبائيات".