حرب صفّين بطائرات إف 16

07 ابريل 2015
+ الخط -

لمتابعة مستجدات الوضع في اليمن، يجدر بنا أن نبحث عنها، في كتاب المبتدأ والخبر في أخبار العرب والبربر لابن خلدون، الصادر قبل سبعة قرون. فلا شيء في نشرات الأخبار، بليلها ونهارها، يمكن أن تُسوّق لنا وهماً حديثاً بأن الطائرات إف 16، وعربات الهامر والقناصة، يمكن أن تغطي عن حقيقة الحرب في جوهرها الدائم الذي نعود إليه بشغف لازَمني، أو خارج الزمن، فنحن، بعد أن تنجلي المؤثرات الخاصة، نتابع أطوار معركة صفين، بإخراج جديد، يعوض الحسام المهند بقوات الردع الجوية! كما لو أن اليمن، اليوم، لقاء تراجيدي عبثي بين الإنجيل وهوليوود، فكل المشهد إعادة تركيب لحرب السنّة والشيعة الأولى، حرب العمرية والرافضة، باصطلاح العسكر المرابط في بطون الكتب وأعماق المخيلة السياسية للجزيرة والأمة جمعاء.

قد لا نتعرف، في اللقطات السريعة لمصوري الوكالات وآلات نيكون اليابانية، على ملامح عمار بن ياسر، والأشتر النخعي ومحمد بن أبي بكر في الجهة الرافضة، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وعائشة أم المؤمنين احتمال ضعيف أن تحضر، باعتبار أن وضع المرأة العربية، اليوم، أقل بكثير من الوضع الاعتباري للحميراء عزيزة النبي (ص)، ولا نساء يخضن الحرب، اليوم، من جهة العمرية.

تقدم أدبيات السياسة والحرب ما يقع حالياً، على أنه دفاع عن مؤسسات شرعية، ضاعت بين السيف والعمامة في حين تقوم الحقيقة العميقة على أن عثمان أجّرَ قميصه لعبد ربه منصور هادي الرئيس الضليل، امرئ القيس الذي كان يمكن أن تسعفنا قصته، وهو يخرج إلى الأمم يبحث عن جيشٍ يقوده ليثأر له ولملك أبيه، في تحيين المخيال الحربي العربي، وإقامة المعادلة البلاغية لحرب لا بلاغة فيها سوى الدم.

لكن امرأ القيس خرج قبل الوحي، وليس بعده، وقبل الفتنة وليس بعدها، ولم ينقسم العرب المسلمون حوله، كما انقسموا، في حرب صفين الأولى وصفين الثانية الآن. الأدهى من ذلك أن حروبنا الأولى تعود بحذافيرها وجماجمها كلها :

- بدأت حرب المسلمين في المساجد، فيها قتل الخلفاء المؤسسون للعصر الذهبي، في مخيالنا الجمعي، عمر وعثمان وعلي، وتتواصل المعارك القاتلة فيها إلى حد الآن، أو حد السيف. لا فرق، فالوقت عندنا كالسيف!

ومن ينصت إلى خطباء المنابر، لن يشك بأنه في جوامع الكوفة أو دمشق، باللغة ذاتها، بالتفكير ذاته، بالسباب ذاته، يتهجمون مِن على المنابر على أئمتهم، أئمتنا طبعاً. لا فرق أن يجد إمام ما في نفسه حساباً خاصاً مع أبي بكر رضي الله عنه، ويعتبر أن شر إمامته مازال قائماً، وأن الأمة تدفع الثمن لما تم في السقيفة! الأنكى أنه يجد أن إسرائيل نفسها ما هي سوى نتيجة منطقية للخلل الذي دشنته الأمة في السقيفة نفسها.

ولا فرق أن تحتل فرقة ما مكانة في أعلى السلم الهرمي لأحباب الله، وتعلن في القبائل الجديدة أنها تقتص لعثمان ولعمر، وتستل من تاريخها، المزيد والمنقح، أبا بكر ابن قحافة نفسه رضي الله عنه، في شخص البغدادي، وتسلحه، عكس الآباء السذج، بسيارات الدفع الرباعية، وما تركته فلول الساسان والروم من سلاح الهامر وصواريخ ستاينغر، وتحلم بتطهير الجزيرة من أتباع علي رضي الله عنه!

كل ما في المشهد العربي في حرب اليمن الجديدة لا يعيدنا إلى قاموس الصراع الاستراتيجي حول النفط أو حول الريادة، بالتحديد وبالفقط ...، بل يعود بنا إلى الثقوب الفارهة في الحاضر التي تسمح للماضي أن يتسرب إلى الراهن، ويعيد نفسه في شكل تمرين جديد، بأدوات جديدة من العصر الحالي. وإلا، لماذا لا تكون ضمن التحالف، من باب تنويع منابع الشرعية المدافع عنها، دولة شيعية، أو تنظيم شيعي يعلن، بدوره، أن حرب صفين لن تقع مجدداً، وأن الأمر سياسي محض؟

سؤال يحمل جذور استعصائه في طرحه، لأن الحرب في الواقع بدأت منذ السنة الثامنة للهجرة، عام وصول الإمام زيد إلى اليمن، ولم تنته بعد! وحتى الصراع الذي أطرته، في تاريخ حديث، مقولات الرجعية والنظام الاشتراكي، وتم تجاوزه بتوحيد اليمنين في يمن مسلٌم به، يبدو وكأنه جزء من جغرافيا غير جغرافيا مملكة سبأ الجديدة، وتاريخ غير تاريخها. فما كان حرباً سياسية دينية، في العهد الأول للفتنة، أي منذ 14 قرناً، تحت سقف الإمارة الواحدة، تحول إلى حرب طائفية، على هامش القرن الواحد والعشرين .

وما كان، منذ 14 شهراً، حرباً بين مؤسسات التوازن الداخلي لليمن، حرباً شرعية ثورية أو شرعية توافقية، أصبح حرب شرعٍ ننتظر فيه أن ترفع المصاحف على رؤوس الصواريخ الباليستيكية، أو يصدر تحكيم أبو موسى ...الأشعري!

وما كان صراعا ديمقراطياً في سورية، منذ أربع سنوات، تحول إلى اصطفاف طائفي، تغذيه موازين القوى الدولية، من دون أن تعي أشباحه القادمة من معارك القادسية!

هكذا هي الأيديولوجية الطائفية، تعوض حياة الشعوب بمخاوف ماضيها، ونستأصل حاضرها، كي يستمر الماضي إلى اليوم.

كان من الممكن أن نزعج الاصطفاف بين صفين، شيعي وسني، بقليل من الشيعة مع السنة وقليل من السنة مع الشيعة، لكن ذلك لم يحصل، فالصرامة الديكارتية التي نعود بها إلى النص الأول لحرب الطوائف تقتضي أن يظل كل شيء على حاله، حتى وإن خلنا، بفعل المؤثرات نفسها، أن العالم تغير!

نكاد نجزم أن الحرب ستكون طاحنة، فإذا خلفت حرب صفين الأولى 70 ألف ضحية، وقتها كان يقال 70 ألف رجل، فلا شيء يجعلنا أقل من الأجداد في إنجاز الرقم القياسي نفسه، فلا يصلح أمر الخلف إلا بما صلح به أمر السلف.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.