لأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة، تصل العلاقات الأميركية-الروسية إلى هذا المستوى من التأزم وعدم الثقة والمشاعر المعادية المتبادلة. والأهم من ذلك، تسللت موسكو خلف "خطوط العدو" وأصبحت جزءاً من الرهاب الأميركي حيال كل ما يتعلّق بروسيا. فالمجتمع الاستخباراتي الأميركي يشتبه بأن رئيس البلاد أو محيطه تماهى مع موسكو أو خضع لابتزازها، والمؤسسة الحاكمة لا تثق بالبيت الأبيض لإدارة المواجهة مع روسيا.
ما يحدث في الفترة الأخيرة يفوق أي سيناريو محبوك من خيال هوليوود. "مدربة جنس" روسية، قيد الاعتقال في مركز للمهاجرين في تايلاند، تعرض معلومات عن تدخّل موسكو في الانتخابات الأميركية مقابل الحصول على لجوء في الولايات المتحدة. قبلها، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعرض فيديو لصاروخ نووي جديد يستهدف ما يشبه المقر الصيفي لنظيره الأميركي دونالد ترامب على ساحل ولاية فلوريدا.
في شهادته أمام الكونغرس في 27 فبراير/شباط الماضي، قال مدير وكالة الأمن القومي، مايك روجرز، إن إدارة ترامب لم تعطه توجيهات لمواجهة مصدر مشغّلي القرصنة الروسية. كما كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأحد الماضي أن وزارة الخارجية لم تصرف حتى الآن شيئا من مبلغ الـ120 مليون دولار المخصص لردع التدخّل الروسي في الحياة السياسية الأميركية. وبعدما أصبح هذا التدخّل جزءاً من المسار القضائي، مع صدور لائحة اتهام عن المحقق الخاص روبرت مولر ضد 13 شخصاً وثلاثة كيانات روسية، تسعى المؤسسة الحاكمة في واشنطن إلى جعل موسكو تدفع ثمن تدخّلها.
من جهة أخرى، يمكن اختصار دوافع بوتين وراء المبادرة بالهجوم السياسي، بثلاث نقاط: أولاً في التوقيت، على بُعد أيام من الانتخابات الرئاسية المقررة في 18 مارس/آذار الحالي والتي يُتوقَّع أن تمدد مرة أخرى ولاية بوتين الرئاسية. وفي ظل غياب أي مرشح جدي منافس له، يحتاج الرئيس الروسي إلى "عدو" خارجي لحشد نسبة إقبال عالية على الاقتراع. ثانياً، هناك قناعة تولدت في الكرملين أنه لا يمكن المراهنة بعد الآن على ترامب الذي لن يكسب معاركه الداخلية ضد المؤسسة الحاكمة. هذا يعني انتهاء مفعول مهادنة بوتين لإدارة ترامب منذ قرار سلفه باراك أوباما طرد 35 دبلوماسياً روسياً في شهر ديسمبر/كانون الأول 2016. ثالثاً، الوضعية العسكرية الأميركية تجاه موسكو تغيرت أخيراً، إذ بدأت بتعزيز انتشارها في البحر الأسود على عتبة روسيا. كما طلبت إدارة ترامب زيادة التمويل لمبادرة الردع الأوروبية بحوالي ملياري دولار، وهو برنامج بدأه أوباما لتعزيز دفاعات حلف شمال الأطلسي ضد روسيا. كما أعلنت إدارة ترامب أخيراً عن بيع أسلحة نوعية لأول مرة لأوكرانيا بقيمة 47 مليون دولار.
الواقع أن هناك مشاعر عدائية متنامية ضد موسكو في واشنطن، وهناك صقور في الملف الروسي ليس فقط في المؤسسة الحاكمة، بل في الدائرة الضيقة في محيط ترامب. لكن لم تصل المواجهة بعد إلى حد وصفها بالحرب الباردة، بل هي توترات تتكرر بين الحين والآخر، كما حدث عام 2015 بعدما نشرت موسكو في المحيط الأطلسي غواصات محملة بصواريخ كروز نووية. ومع كل الفوضى الدائرة في سورية حالياً، فإن قنوات الاتصال لا تزال مفتوحة بين الجيشين الأميركي والروسي، وموقف البنتاغون المتردد في التدخّل لردع النظام السوري عن استخدام أسلحة كيميائية في الغوطة الشرقية مرتبط إلى حد ما بهذه الحسابات الروسية.
وبدأ ترامب تدريجياً بالخضوع لضغوط المؤسسة الحاكمة. فالبيت الأبيض أرسل أخيراً تحذيرات سرية إلى الكرملين لوقف محاولاته التدخّل في انتخابات الكونغرس في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. كما أكّد وزير الخزانة ستيف منوشين أمام مجلس النواب هذا الأسبوع أن إدارة ترامب ستنفذ "قانون ردع خصوم أميركا من خلال العقوبات" الذي أقره الكونغرس قبل حوالي سبعة أشهر. والسؤال الآن إلى أي مدى سيسعى البيت الأبيض لاستغلال هذا القانون لتضييق الخناق على النخب العسكرية والسياسية والاقتصادية في دائرة بوتين الضيقة؟
الولايات المتحدة وروسيا تمتلكان 90 في المائة من الترسانة النووية العالمية، التي تصل إلى حوالي 16 ألف سلاح نووي، وبالتالي قدرتهما المشتركة على التدمير غير مشكوك فيها.
السباق الآن بين الطرفين هو لتحديث هذه الترسانة بصواريخ يمكنها تجاوز المضادات الدفاعية، وهي صواريخ لا يمكن تطويرها بسهولة وتحول دون استخدامها تحديات تقنية كثيرة. ليس واضحاً بعد في واشنطن إذا ما بوتين استخدم خلال عرض الفيديو عقيدة السياسة الخادعة الروسية، التي توحي للعدو بامتلاك قوة عسكرية ما للتأثير على خياراته السياسية، أو أن الكرملين يقترب فعلاً من امتلاك هذه التكنولوجيا الجديدة. ضغوط بوتين تهدف بشكل رئيسي إلى استدراج إدارة ترامب إلى حوار مباشر يشمل إعادة إحياء المحادثات الثنائية حول مراقبة التسلح.