14 نوفمبر 2024
حرب الحريات الفردية في المغرب
تتواصل في المغرب حرب الحريات الفردية التي يتواجه فيها فريقان؛ الإسلاميون المدعومون من القطاع المحافظ في المجتمع، وفريق آخر يتكون من ليبراليين ويساريين وعلمانيين والمنظمات الحقوقية. وبين هذا وذاك، تقف السلطة وعينُها على موارد القوة الفكرية والسوسيولوجبة لكل فريق، تزنها وتقدرها جيداً في ضوء المتغيرات الداخلية والإقليمية، وتتلمس، بمختلف الوسائل، خيطاً رفيعاً يربط بين التزاماتها الحقوقية الدولية ومشروعيتها السياسية التي يمثل الدين والتقاليد أهم مرتكزاتها.
ما إن بدأت تهدأ الضجة التي أثارها فيلم "الزين اللي فيك" الذي يعالج ظاهرة الدعارة، ومنعت الحكومة عرضه بدعوى "تضمنه إساءة أخلاقية جسيمة للقيم وللمرأة المغربية، ومسا صريحا بصورة المغرب"، حتى بدأ النقاش العمومي يحتد من جديد بشأن قضايا أخرى، ذات طبيعة عقائدية واجتماعية حساسة. فقبل فترة، توبعت فتاتان في إنزكان، جنوب المغرب، بتهمة الإخلال بالحياء العام على خلفية ارتدائهما تنورتين قصيرتين في الشارع، بعدها نظمت منقبات ومحجبات وقفة احتجاجية أمام مبنى البرلمان، تحت شعار "حجابي حريتي"، ما أثار نقاشا واسعا بشأن لباس المرأة وعلاقته بحريتها الشخصية. كما اعتدى بالضرب المبرح متشددون على شخص مِثْليٍّ في فاس. علاوة على ذلك، أصبح حلول شهر رمضان مقترناً، منذ أعوام، بنقاش عمومي حاد حول "الحق" في الإفطار الذي يطرحه بعضهم من منطلقات حقوقية بحتة. ولعل اللافت في هذا النقاش انتقاله إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت واقعا افتراضيا موازيا، تتواجه فيه مختلف فئات المجتمع، بكل شراسة، في صراع فكري وثقافي محمل بدلالات متباينة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ ذهب بعض رموز التيار السلفي إلى حد المطالبة بإحداث "هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ما أرعب الأوساط الليبرالية والعلمانية التي سارعت، من خلال منظمات أهلية، إلى اتهام الحكومة التي يقودها الإسلاميون ب "ممالأة التطرف وتشجيعها على انتشار دعوات التكفير والتشدد في مجتمع عرف بانفتاحه وتسامحه". وعلى الرغم من أن هذه المواجهة لم تصل بعد إلى الاستقطاب الحاد الذي يضع المجتمع على حافة الانقسام الذي يهدد لحمته، إلا أنها تعكس، بشكل أو بآخر، ما يعتمل داخله من متغيرات عميقة، تمس مختلف المجالات، هذا فضلا عن إخفاق القوى الاجتماعية في تدبير خلافاتها الفكرية والعقائدية، خصوصا المتعلقة بقضايا الحريات الشخصية، مثل حرية المعتقد والضمير والفكر والرأي، ومناهضة مختلف أشكال التمييز ضد المرأة.
صراع القديم والجديد من صميم التطور الطبيعي للمجتمعات، حيث تلعب عوامل متعددة في تشكيل ملامح هذا الصراع ومآلاتــه، من قبيل توزيع الثروة والسلطة والاصطفافات الاجتماعية والثقافية التي تنتج عن هذا التوزيع، وصراع القيم والاتجاهات وأنماط السلوك، والثقافة السياسية السائدة، وطبيعة النخب، وغيرها. ويمكن القول إن أهم تحد يواجهه المجتمع المغربي بهذا الخصوص، هو عدم مواكبة البنيات الثقافية والفكرية للتطور السوسيو اقتصادي، خصوصاً داخل الطبقات الوسطى، أو بعض شرائحها على الأقل. فمعظم ما يقدمه العصر من تقنيات وموارد مختلفة تخص المعرفة والتنشئة والتواصل، غالبا ما يصطدم بتيار محافظ يوجد في مختلف المواقع، ما يلقي ظلالاً قوية على قضايا الهوية والاندماج الاجتماعي والوطني.
وعلى الرغم من أن السلطة تؤكد، دائماً، التزامها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالمياً، إلا أنها، في الواقع، تواجه صعوبات ثقافية ومعيارية كبرى، في تصريف بعض هذه الحقوق في المنظومة القانونية المغربية، في ظل انقسام النسيج الاجتماعي والثقافي إزاءها.
أضف إلى ذلك أن إشرافها وتدبيرها الحقل الديني، بكل رمزيته، يفرض عليها مراراً البحث عن تسويات ترضي الجميع، الأمر الذي يصب في مصلحتها، على اعتبار أن ذلك يوفر لها هامشاً لتدبير الخلافات وإعادة إنتاجها، ثم توجيهها وفق تقديراتها. ولهذا، كان تعليقُ وزير العدل دالا على بعض فصول مشروع القانون الجنائي الجديد الذي أثار نقاشات واسعة. ففيما يتعلق بالفصول التي تجرم الإفطار العلني في رمضان، قال الوزير إنه "لا يمكن حذفها، ما لم يصل المجتمع المغربي إلى مرحلة القبول بذلك"، وبخصوص حرية المعتقد، أكد أن المشروع لا يتضمن "نصا يُجرم تغيير الديانة، حتى وإن تعلق الأمر بتغيير الديانة من الإسلام إلى دين آخر".
يضمر كلام الوزير هذا أكثر مما يصرح، فهو يعني أن الدولة، بمختلف مؤسساتها، تدرك استحالة تصريف مقتضيات حقوقية "متطرفة" داخل سياق ثقافي، تحكمه القيم الدينية والتقليدية، باعتبارها مورداً رئيسيا في بناء الهوية المغربية وتشكيلها. لكن، في الوقت نفسه، على هذه الدولة أن لا تغلق الباب كليا في وجه المقتضيات الحقوقية الوافدة من المواثيق والاتفاقيات الدولية، بل هي ملزمة بإدماجها واستيعابها معيارياً في النظام القانوني المغربي. غير أن الوزير كان عليه أن يحدد أن ما يقصده بوصول المجتمع المغربي إلى القبول بحذف الفصول محل الخلاف، لا يعني إلا تلك الشروط السوسيولوجية والثقافية المعروفة، والمتمثلة، أساساً، في سياسات عمومية، تساهم في إنتاج التغير الاجتماعي، مثل تعليم جيد ينمي الحس المدني والنقدي لدى الأفراد والجماعات، وطبقة وسطى واسعة، تشكل محوراً اجتماعيا لتداول قيم التسامح والتعايش والاحترام المتبادل، وفضاء عمومي يسع كل الأفكار والآراء والمصالح، ضمن احترام الحقوق والحريات وسيادة سلطة القانون.
من المعروف أن القانون لا يغير الواقع بين عشية وضحاها، خصوصاً في المجتمعات المحافظة التي تتطور بنياتها ببطء وحذر شديدين، غير أن الإصلاح القانوني المتدرج والمتوافق عليه، قد يكون، في أحيان كثيرة، مدخلا للمساهمة في زحزحة هذه البنيات، ووضعها على درب التغيير والتطور.
ما إن بدأت تهدأ الضجة التي أثارها فيلم "الزين اللي فيك" الذي يعالج ظاهرة الدعارة، ومنعت الحكومة عرضه بدعوى "تضمنه إساءة أخلاقية جسيمة للقيم وللمرأة المغربية، ومسا صريحا بصورة المغرب"، حتى بدأ النقاش العمومي يحتد من جديد بشأن قضايا أخرى، ذات طبيعة عقائدية واجتماعية حساسة. فقبل فترة، توبعت فتاتان في إنزكان، جنوب المغرب، بتهمة الإخلال بالحياء العام على خلفية ارتدائهما تنورتين قصيرتين في الشارع، بعدها نظمت منقبات ومحجبات وقفة احتجاجية أمام مبنى البرلمان، تحت شعار "حجابي حريتي"، ما أثار نقاشا واسعا بشأن لباس المرأة وعلاقته بحريتها الشخصية. كما اعتدى بالضرب المبرح متشددون على شخص مِثْليٍّ في فاس. علاوة على ذلك، أصبح حلول شهر رمضان مقترناً، منذ أعوام، بنقاش عمومي حاد حول "الحق" في الإفطار الذي يطرحه بعضهم من منطلقات حقوقية بحتة. ولعل اللافت في هذا النقاش انتقاله إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت واقعا افتراضيا موازيا، تتواجه فيه مختلف فئات المجتمع، بكل شراسة، في صراع فكري وثقافي محمل بدلالات متباينة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ ذهب بعض رموز التيار السلفي إلى حد المطالبة بإحداث "هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ما أرعب الأوساط الليبرالية والعلمانية التي سارعت، من خلال منظمات أهلية، إلى اتهام الحكومة التي يقودها الإسلاميون ب "ممالأة التطرف وتشجيعها على انتشار دعوات التكفير والتشدد في مجتمع عرف بانفتاحه وتسامحه". وعلى الرغم من أن هذه المواجهة لم تصل بعد إلى الاستقطاب الحاد الذي يضع المجتمع على حافة الانقسام الذي يهدد لحمته، إلا أنها تعكس، بشكل أو بآخر، ما يعتمل داخله من متغيرات عميقة، تمس مختلف المجالات، هذا فضلا عن إخفاق القوى الاجتماعية في تدبير خلافاتها الفكرية والعقائدية، خصوصا المتعلقة بقضايا الحريات الشخصية، مثل حرية المعتقد والضمير والفكر والرأي، ومناهضة مختلف أشكال التمييز ضد المرأة.
صراع القديم والجديد من صميم التطور الطبيعي للمجتمعات، حيث تلعب عوامل متعددة في تشكيل ملامح هذا الصراع ومآلاتــه، من قبيل توزيع الثروة والسلطة والاصطفافات الاجتماعية والثقافية التي تنتج عن هذا التوزيع، وصراع القيم والاتجاهات وأنماط السلوك، والثقافة السياسية السائدة، وطبيعة النخب، وغيرها. ويمكن القول إن أهم تحد يواجهه المجتمع المغربي بهذا الخصوص، هو عدم مواكبة البنيات الثقافية والفكرية للتطور السوسيو اقتصادي، خصوصاً داخل الطبقات الوسطى، أو بعض شرائحها على الأقل. فمعظم ما يقدمه العصر من تقنيات وموارد مختلفة تخص المعرفة والتنشئة والتواصل، غالبا ما يصطدم بتيار محافظ يوجد في مختلف المواقع، ما يلقي ظلالاً قوية على قضايا الهوية والاندماج الاجتماعي والوطني.
وعلى الرغم من أن السلطة تؤكد، دائماً، التزامها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالمياً، إلا أنها، في الواقع، تواجه صعوبات ثقافية ومعيارية كبرى، في تصريف بعض هذه الحقوق في المنظومة القانونية المغربية، في ظل انقسام النسيج الاجتماعي والثقافي إزاءها.
يضمر كلام الوزير هذا أكثر مما يصرح، فهو يعني أن الدولة، بمختلف مؤسساتها، تدرك استحالة تصريف مقتضيات حقوقية "متطرفة" داخل سياق ثقافي، تحكمه القيم الدينية والتقليدية، باعتبارها مورداً رئيسيا في بناء الهوية المغربية وتشكيلها. لكن، في الوقت نفسه، على هذه الدولة أن لا تغلق الباب كليا في وجه المقتضيات الحقوقية الوافدة من المواثيق والاتفاقيات الدولية، بل هي ملزمة بإدماجها واستيعابها معيارياً في النظام القانوني المغربي. غير أن الوزير كان عليه أن يحدد أن ما يقصده بوصول المجتمع المغربي إلى القبول بحذف الفصول محل الخلاف، لا يعني إلا تلك الشروط السوسيولوجية والثقافية المعروفة، والمتمثلة، أساساً، في سياسات عمومية، تساهم في إنتاج التغير الاجتماعي، مثل تعليم جيد ينمي الحس المدني والنقدي لدى الأفراد والجماعات، وطبقة وسطى واسعة، تشكل محوراً اجتماعيا لتداول قيم التسامح والتعايش والاحترام المتبادل، وفضاء عمومي يسع كل الأفكار والآراء والمصالح، ضمن احترام الحقوق والحريات وسيادة سلطة القانون.
من المعروف أن القانون لا يغير الواقع بين عشية وضحاها، خصوصاً في المجتمعات المحافظة التي تتطور بنياتها ببطء وحذر شديدين، غير أن الإصلاح القانوني المتدرج والمتوافق عليه، قد يكون، في أحيان كثيرة، مدخلا للمساهمة في زحزحة هذه البنيات، ووضعها على درب التغيير والتطور.