حربنا مع الصهيونية

22 ديسمبر 2015
+ الخط -
كانت لحظةً حزينة تلك التي وقف فيها الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش (الأب) على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، مساء يوم16/12/1991، ليطلب من الدول الأعضاء الموافقة على قرار بإلغاء القرار رقم 3379 الذي اتخذته الجمعية نفسها في 10/11/1975، والقاضي بأن الصهيونية من أشكال العنصرية.
في سطر واحد فقط، صدر القرار رقم 4686، ليعلن أن الجمعية العامة ألغت قرارها السابق، وما بين قرار أممي بإدانة الصهيونية حركة عنصرية، وقرار آخر بإعادة الإعتبار لها، ونحن على أعتاب اتفاق أوسلو، تكمن قصة التراجع المستمر في الموقف الفلسطيني والعربي الرسميين، والانتقال من حالة التصدي للصهيونية والتمسك بروايتنا التاريخية، إلى محاولة التعايش معها، والتراجع عن محاولات عزلها وحصارها، وإدامة الاشتباك مع فكرتها استعماراً استيطانياً كولونيالياً على أرض فلسطين.
لم يكن قرار اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية معزولاً عن سياقه العام، فقد جاء في أوج النضال الفلسطيني من أجل التحرير والعودة، وبموازاة الثورة الفلسطينية المشتعلة في فلسطين ومحيطها العربي، كان ثمة جهد دبلوماسي مميز في العالم بأسره، فلسطيني وعربي، لفضح الاحتلال الصهيوني وتعريته. في حينها، لم يجد العدو من وسيلة يرد بها على هذا الجهد المميز، سوى اغتيال كوادر منظمة التحرير ومندوبيها في الخارج.
حسبنا، هنا، أن نسرد مقدمات قرار إدانة الصهيونية الذي أشار إلى أن التعاون والسلم الدوليين يتطلبان تحقيق التحرر والاستقلال القوميين، وإزالة الاستعمار والاستعمار الجديد، والاحتلال الأجنبي والصهيونية والفصل العنصري. كما أشار القرار إلى إعلان المكسيك (1975) وقرارات وزراء خارجية دول عدم الانحياز، ومؤتمر القمة الأفريقي الذي رأى أن "النظام العنصري الحاكم في فلسطين المحتلة، والنظامين العنصريين الحاكمين في جنوب إفريقيا وزيمبابوي، ترجع إلى أصل استعماري مشترك، ولها هيكل عنصري واحد، ليخلص القرار إلى أن الصهيونية من أشكال العنصرية، ويدعو إلى مقاومتها".

لم يكن الإلغاء المؤسف لذلك القرار ناجماً فقط عن الوعد الذي قطعه الرئيس بوش لرئيس الوزراء الإسرائيلي، ولا عن قدرة الولايات المتحدة على التأثير في قرارات المجتمع الدولي. فهذا على أهميته ليس كافياً، وقدرات الولايات المتحدة في منتصف السبعينات لم تكن أقل من قدراتها في بداية التسعينات، بل إن دولاً عديدة صديقة تاريخياً للقضايا العربية، وممن صوّتوا على القرار الأول، وساهم بعضهم في تدريب الثورة الفلسطينية المعاصرة وتسليحها، صوتوا على قرار الإلغاء، ما لا يمكن تفسيره، مع التقدير الكامل للظروف الدولية المتغيرة، إلا من زاوية النظر إلى مدى التراجع الذي لحق بالموقفين، الفلسطيني والعربي، الرسميين.
لا يمكن أن تطلب من الآخرين أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك، إذ اتجه الموقف الفلسطيني والعربي إلى الانخراط في التسوية، بما يتضمنه ذلك من الاعتراف الواضح والصريح بما يسمى (إسرائيل)، وقبولها، والاستعداد للتعايش معها، واختفى، أو كاد، الجهد الدولي المنصب لتعريتها وفضح ممارساتها العنصرية، ليحل مكانه جهد آخر، يروج للسلام الوشيك والمتوقع حدوثه. ومن بوابة هذا السلام المزعوم، بدلت دول صديقة عديدة مواقفها، وسعت باتجاه تطبيع علاقاتها مع دولة الكيان الصهيوني.
لم تتغير ممارسات الكيان الصهيوني أو تتبدل، فهو كان، وما يزال وسيبقى، استعماراً استيطانياً إحلالياً، يستهدف استعمار الأرض وبناء المستوطنات وإحلال مجموعات المستوطنين، بدلا من أهل البلاد المنزرعين فيها عبر التاريخ. وما تزال قرى، مثل إقرت وكفربرعم وعين حوض، شاهداً على عنصرية هذا الكيان، وهي التي لم يغادر أهلها أرض فلسطين، وإنما أجبروا على مغادرة قراهم إلى قرى أخرى قريبة، ومنعوا بعد ذلك من العودة إلى قراهم الأصلية. وفي كل عام، وفي ذكرى النكبة، ينظم الأهالي مسيرتهم السنوية إليها، يعودون فيها إلى أطلال قراهم، يتفقدون ما بقي من مقابر الموتى وبقايا المنازل والأشجار، ونبع الماء ومجرى الجدول والبئر العتيقة.
تتجدد هذه الممارسات، كل يوم، عبر بناء الجدار العازل، وتهجير عرب النقب وهدم قراهم، ومحاولة تهويد الجليل ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات في الضفة الغربية. والأنكى من ذلك إصدار القوانين التي تنطبق على اليهود فحسب دون سواهم، فمثلاً يتم مصادرة أراضٍ ومساكن في القدس، بدعوى أنها كانت مملوكة ليهود قبل سنة 1948، في حين يمنع على أهل القدس، بل وعلى الذين استمروا في العيش داخل دولة الكيان الصهيوني، المطالبة بممتلكاتهم العائدة إليهم في باقي مناطق فلسطين، والتي تمت مصادرتها.
تقود، الآن، حركة المقاطعة المعروفة بـ PDS حملة عالمية نشطة، تبادر إليها حركات شبابية في مختلف دول العالم لمقاطعة المنتوجات الصهيونية، وقد حققت تقدماً ملحوظاً على مستوى مقاطعة منتجات المستوطنات، وسحب الاستثمارات والمقاطعة الأكاديمية. وهي خطوات مهمة باتجاه العودة إلى اعتبار الصهيونية حركة عنصرية، وتحقيق عزلة دولية شاملة لدولة الكيان الصهيوني، شبيهة بالعزلة التي أودت النظام العنصري في جنوب إفريقيا.
إلا أن جهود حركة المقاطعة وحدها لن تكون كافيةً، ما لم تتم إعادة بلورة المشروع الوطني الفلسطيني، بحيث يضمن وحدة المكونات الثلاثة للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين التاريخية والشتات والتخلي الكلي عن مرحلة "أوسلو" واتفاقياتها التي تعترف بالوجود الصهيوني على أرض فلسطين، وصياغة مشروع وطني فلسطيني قائم على دحر الاحتلال، من دون قيد أو شرط، من خلال الانتفاضة الجماهيرية وعبر أشكال المقاومة المشروعة والتمسك بحق العودة، والعمل على تحقيق أوسع عزلة دولية في مواجهة الكيان الصهيوني، انطلاقاً من أن الهدف الإستراتيجي هو تفكيك الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الصهيوني من أرض فلسطين، واستبدال النظام الصهيوني بنظامٍ يضمن الحرية والمساواة.
العودة إلى هذه الأفكار والتمسك بها هي طريقنا نحو العالم لإعادة الصهيونية إلى المكان الذي ينبغي أن تكون به شكلاً حديثاً من أشكال العنصرية والكولونيالية والاستعمار، وهو ما سيلقى تأييداً عارماً من كل القوى المحبة للعدل والحرية والمساواة في العالم، إضافة إلى أنه طريقنا الطبيعي نحو فلسطين الحرة، والخالية تماماً من الصهيونية.







34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.