01 نوفمبر 2024
حديث الديّة... بين الإغراء بالدم والتغرير بالوطن
خرج علينا بعضهم، في مصر، بحديث المصالحة على نحو دعائي، وبخطاب موجه إلى الخارج، وعلى رأس هؤلاء، قائد المنظومة الانقلابية في تلويح منه بالمصالحة، ويقول إن "على الطرف الآخر أن ينظر ماذا سيقدم للوطن"، إلا أنه، في لازمة صارت على لسانه، "إلا من تلوثت يده بدماء"، ونسيَ هؤلاء إن كانوا صادقين، وقد عهدنا عليهم الكذب فى كل قول، والغدر في كل فعل، أن ربما يكون هناك من تلوثت يديه بدماء، ومن دون إشارة منهم أن أصحاب القرار تورطوا في فيضان دماء، وسبحوا فيه من غير اعتبار للحرمات، وليس من "انعاص" على تعبير العامية المصرية، كالذي غاص في الدماء وأسرف، ومن عجب أن يحذر ويتوعد من غاص، ويرد ذلك على لسانه لمن "انعاص".
اقترن بهذا الحديث ترويج مسرحية الديات، واضعين على رأسها رموز المؤسسات الدينية الرسمية، وكأن المبادرة منهم ومن تفكيرهم، بحثاً عن مخارج للوضع الراهن وما ترتب عليه من إزهاق أرواح في ميدان رابعة العدوية وأخواته، وفي حقيقة الأمر، ما هي بالمخارج، لكنها الحيل. حينما يُستدعى الإسلام عند الطلب، بفتاوى أو أقوال أو آراء سابقة الإعداد والتجهيز، استظهاراً بالدين، واستخداماً له كمادة استعمالية، بانتهازية من السلطة وفقهاء السلطان، على الرغم من محاولات السلطات ضمن عملية استبدادها تأميم الدين واحتكار التعبير باسمه، واتهام كل من يتخذ الاسلام مرجعية له بالمتاجرة في الدين.
القتل من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم، التي تهدم البنيان، وتحل اللعنة على الأوطان. أن تهدم أقدس المقدسات، وتزول الأرض والسموات، أهون من قتل نفس واحدة. وقتل نفس واحدة لم تَقتُل، ولم تُفسد في الأرض، يعادل قتل البشرية جميعها. إلى هذا الحد، يجب أن ننظر في حالة "القتل" التي نعيشها منذ 3 يوليو/تموز 2013، والتي تحولت من حالة إتاحة محدودة إلى حالة استباحة بلا حدود. بعد انقلاب الثالث من يوليو استبيح الدم، واستبيح الخنق، والحرق، والتقتيل، بحيث رأت عيوننا في مصر، وبيد مصريين، ما لم نره من أعتى المستعمرين، ولم يذهب بنا الخيال يوماً إلى أن يكون في مصر.
ويا ليت الواقعة إذ وقعت وقفت، أو أوقفت، أو أدينت، أو أنكرت، أو تبرأ منها أهل العلم والفكر، ومن تبقت فيهم بقية إنسانية، لكنهم هيجوا على مزيد من القتل، وحرضوا، وجرأوا القاتل على فيض من الدماء، وأكوام من الأشلاء، وهاجموا المقتول والمصاب، وحملوه مسؤولية قتل نفسه أو ابنه أو ابنته أو صاحبه. بل حكموا عليه بالإعدام، وسفيه الأحكام.
مهزلة جرت في أرض مصر، شارك فيها قاتل آمر متسبب، وقتلة محرضون متسببون، وقتلة مباركون متسببون، وقوات مباشرة غنى لها المهللون (تسلم الأيادي)، في تعبير خطير عما وصل إليه الضمير المصري من ضياع، وفساد ومسخ وطمس وانتكاس. وأشد من ذلك أن تخرج علينا عمائم وأسماء تنتسب إلى العلم الشرعي والدعوة، تصرخ بأعلى صوتها: اقتلوهم، اضرب في المليان، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، من قتلهم فهو أولى بالله منهم، وغيره من المغول الاستئصاليين الجدد، الذين دعوا لفض الاعتصامات بالقوة، ولو قتل فيها كل المعتصمين. ومضى قساة القلوب عميان الأبصار يخوضون في الدم، لا حرمة ولا دين ولا إنسانية ولا وطنية ولا إيمان، ولا خوف من الله، ولا من يوم آخر.
القتل عمد، وشبه عمد، وخطأ، وشبه خطأ، وما يجري مجرى الخطأ. لكن، ما جرى في مصر ليس إلا العمد، وعمد العمد، وليس في العمد ديّة، ولا قصاص. إن حديث الدية في قتل العمد الذي استمر، ولا يزال كل يوم، عاماً وأكثر، والذي يجب ردّه إلى بداية ثورة 25 يناير، هذا الحديث إنما يراد منه أن يقال إن قضية الدم محلولة، والدفاتر دفاترنا، والخليج وفلوسه مضمونة. إذن، الدماء ليست مصونة ولا محقونة، الدماء هدر طالما القضية لها ثمن، والأموال موجودة، "إنه الإغراء بالقتل".
السؤال الحقيقي الذي يجد له إجابة واضحة قاطعة، لا تحتمل التحايل أو التلاعب أو التواطؤ على الكذب فيها، لماذا لم يجعل الله تعالى في القتل العمد ديّة؟ لأن القاتل المتعمد، لو علم أن الدية هي جزاء من قتله متعمداً؛ لاستحرّ القتلُ في الناس، وأفنى بعضهم بعضاً. لأن المال هين، ولا يمنع قتل النفس، إلا قتل النفس القاتلة؛ القصاص..القصاص.
يخرج سدنة الانقلاب ودهاقنته وكهنة الدين الجديد اليوم، ليتمموا جريمتهم، ويكملوا جميلهم لحساب قائد الانقلاب، ويتحدثوا عن الدية، يموهون على الناس دينهم، ويلصقوا بالإسلام خيبتهم الثقيلة، وعارهم الذي لن يمّحى. لا دية في العمد، ولا كفارة. ويستدعي حديث الدية أن يكون القتل الذي جرى، ولا يزال يجري، في ربوع مصر كان قتلاً خطأ. إن في ذلك لخبث ما بعده خبث، وتحريف للدين، بعد إفساد الدنيا الناس وترويعهم وخداعهم وتفزيعهم. قتل العمد لعنة ما بعدها لعنة، لو كان جزاؤه كما يدّعي الأفاكون في قيمة مالية، كائنة ما كانت، لاستخف الناس بالدماء، ولخاضوا فيها بلا رادع ولا خشية، هذا ما يريده الأفاكون؟ أن يقال: الدم له ثمن، والثمن ممكن دفعه.
أول قواعد القود، القصاص، أن يقاد القاتل الجاني المجرم الملعون إلى أولياء القاتل، وأن يمكنوا من رقبته، ثم هم بالخيار: إما القصاص، وهو حقهم المطلق الذي لا يدخله إغراء ولا إكراه، أو العفو والمصالحة؛ إحساناً وتكرماً. لكن المعروض اليوم من الانقلابيين، أن يتكرموا ويعفوا عن المقتول، ويصالحوه بمال. النفوس في عرف هؤلاء تُشترى بالمال، إن كانت حية إغراءً، وإن كانت مقتولة إزهاقاً. يا الله كيف لهؤلاء يستهينون بالنفوس إفساداً بمالهم، أو شراء لنفوسهم، إعفاء لمسؤوليتهم عن سفك الدماء بمالهم الوفير، كل شيء يُشترى، الاستهانة بالنفوس ديدنهم، والمال وسيلتهم، من قتل نفساً بغير نفس، فلنشتر النفوس جميعاً. إنها الاستهانة على طريق استباحة حرمات الإنسان، ضمن مسيرة معروفة لدى هؤلاء، تبدأ بالتبرير، وتنتهي بعملية تزوير كاملة، مروراً بالتمرير لصاحب السلطان والطغيان، والتغرير بصاحب وولي الدم، مستخفاً بحرمات كل مواطن وإنسان.
عجيب أن هذا النفر الأفاك الأثيم لا يطرح هذا المخرج، أو الحيلة المحرمة المجرمة، فيما يتعلق بالمعتدى عليهم، لم يبحثوا لهم عن مخرج، إلا مخرجاً من الحياة نفسها، لم يبحثوا لمن حكم عليهم المجانين بالإعدامات بالجملة عن "دية"، ولو كذباً وزوراً. تواطأ كل هؤلاء على المقتول لمصلحة القاتل، التمسوا كل حيلة ليذكروننا بباب الحيل الفقهية، لتمرير القاتل بقتله، وإرغام المقتول أو أهله من أولياء دمه، بالإذعان لثمن النفوس والأرواح، فتذهب الحكمة والمعنى والمغزى، "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب".
الأعجب أن يأتي ذلك، في الوقت الذي يحكم فيه الشامخ فى مرفق العدالة على علماء في الشريعة وأساتذة أزهريين بالإعدام، ويحيل أوراقهم إلى مفتي الانقلاب، ولا يتحدث أي منهم عن الدية والمصالحة من هذه الزاوية، فالشريعة تفصل، اليوم، على مقاس رجل واحد، كأنما أنزلت له وحده، ولقبيلته، أو لعلها شريعته التي أوحى بها إليهم، شريعة فرعون القديم الجديد، "ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
حديث الدية اليوم مهين، يأتي بعد أن شبع القاتل من شرب الدم، وأكل اللحم؛ لكي يقول للضحية: نأسف لهذا الخطأ، كان القتل لغاية، وقد تحققت، ويمكننا، الآن، أن نعالج الآثار الجانبية لاستعادة الدولة وتتويج ملكها المقدس؛ إن قتلكم وحرقكم وخنقكم واستباحة الأعراض والنفوس، وإهدار الحريات والحقوق والكرامة، كانت آثاراً جانبية، وأموراً عارضة، لا تهتموا بها كثيراً، هكذا حل النفوس عندكم.
أي عقل هذا الذي يريد أن يلصق بشرع الله، الأكمل والأعدل والأجل، هذه النقيصة، وتلك السبّة: أن ندفع ثمن الدم، وأن نمسح الدم الذي غطى شوارع مصر، وأغرق بالحزن نفوساً لا تعد. إنه إهدار دم وطن، واستهانة بحياة شعب، ما عاد يساوي في أعين الأفاكين المتاجرين بالدين عبيد السلاطين، إلا دراهم معدودة. ويأتي في كل زمان، صاحب الإفك وسليل الطغيان، يقتل من شاء بيد فاجرة تاجرة، ليس لكم عندي إلا الدية، ليس لأحد أن يسأل في حقه ودمه، إن الطاغية يتفضل عليكم مرة بقتلكم، ومرة بالمنّ عليكم بديات نفوسكم، ألا تحمدون فرعونكم، يعيش الفرعون ويموت من يموت، ومن أجل أن يحيا ويطغى، فلنمت نحن ونُقبر.
هذا ليس عرضاً، إنه الفرض؛ لسبب واحد واضح: إنه لا بديل. إما أن تقبلوا الدية الكاذبة الخاطئة، وإلا فلتنتظروا مزيداً من الدم. يحاكمون من قال دمي دون دمكم، دمي أنا، وإياكم والدم، ويتركون من قال: نحن أداة قتل، ومن قال: اقتلوهم، ماذا تنتظرون؟
حديث الدية ينسى أن الدم ليس دم فردٍ، تتم ترضيته بإغراء وخداع، أو إكراه وتخويف، إنه دم أمة استبيح على أعين العالمين. أين الحق العام في الدم، يا أساتذة الشريعة والقانون؟ إذا كان قد قتل، أو تسبب في القتل، أو باشره، فأين التوبة؟ وأين الكفارة؟ أم أنكم يُتاب إليكم ولا تتوبون؟ ويتوسل إليكم ولا تخشعون؟ وتطلب رحمتكم ولا تطلبون؟ إلا اذهبوا فسوف تسألون.
أليس في قتل الخطأ تحرير رقبة قبل الدية؟ فهلا حررتم رقبة الشعب من استبدادكم؟ وهل حررتم فقراءه من فسادكم ونهبكم وغصبكم وسلبكم؟ وهلا حررتم إرادة الشعب من أسركم وأسر أسيادكم؟ وهلا حررتم أبناء الشعب، وقادته، من قهركم وتغلبكم وقولكم (إنا فوقهم قاهرون).
قتلتم الشباب والبنات والرجال والنساء، عمدًا وقصداً، مع سبق إصرار وعناد وترصد وإعداد واستعداد، وإعلان صريح مستبيح، فلا نقول لكم إلا ما قاله الله تعالى، وأنزله عليكم من اللعنات، وأعده لكم من الويلات، إنها مسرحية الديات، بعد مسرحية الانتخابات، في غفلة أو إغفال متعمد من كل هؤلاء، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً).
اقترن بهذا الحديث ترويج مسرحية الديات، واضعين على رأسها رموز المؤسسات الدينية الرسمية، وكأن المبادرة منهم ومن تفكيرهم، بحثاً عن مخارج للوضع الراهن وما ترتب عليه من إزهاق أرواح في ميدان رابعة العدوية وأخواته، وفي حقيقة الأمر، ما هي بالمخارج، لكنها الحيل. حينما يُستدعى الإسلام عند الطلب، بفتاوى أو أقوال أو آراء سابقة الإعداد والتجهيز، استظهاراً بالدين، واستخداماً له كمادة استعمالية، بانتهازية من السلطة وفقهاء السلطان، على الرغم من محاولات السلطات ضمن عملية استبدادها تأميم الدين واحتكار التعبير باسمه، واتهام كل من يتخذ الاسلام مرجعية له بالمتاجرة في الدين.
ويا ليت الواقعة إذ وقعت وقفت، أو أوقفت، أو أدينت، أو أنكرت، أو تبرأ منها أهل العلم والفكر، ومن تبقت فيهم بقية إنسانية، لكنهم هيجوا على مزيد من القتل، وحرضوا، وجرأوا القاتل على فيض من الدماء، وأكوام من الأشلاء، وهاجموا المقتول والمصاب، وحملوه مسؤولية قتل نفسه أو ابنه أو ابنته أو صاحبه. بل حكموا عليه بالإعدام، وسفيه الأحكام.
مهزلة جرت في أرض مصر، شارك فيها قاتل آمر متسبب، وقتلة محرضون متسببون، وقتلة مباركون متسببون، وقوات مباشرة غنى لها المهللون (تسلم الأيادي)، في تعبير خطير عما وصل إليه الضمير المصري من ضياع، وفساد ومسخ وطمس وانتكاس. وأشد من ذلك أن تخرج علينا عمائم وأسماء تنتسب إلى العلم الشرعي والدعوة، تصرخ بأعلى صوتها: اقتلوهم، اضرب في المليان، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، من قتلهم فهو أولى بالله منهم، وغيره من المغول الاستئصاليين الجدد، الذين دعوا لفض الاعتصامات بالقوة، ولو قتل فيها كل المعتصمين. ومضى قساة القلوب عميان الأبصار يخوضون في الدم، لا حرمة ولا دين ولا إنسانية ولا وطنية ولا إيمان، ولا خوف من الله، ولا من يوم آخر.
القتل عمد، وشبه عمد، وخطأ، وشبه خطأ، وما يجري مجرى الخطأ. لكن، ما جرى في مصر ليس إلا العمد، وعمد العمد، وليس في العمد ديّة، ولا قصاص. إن حديث الدية في قتل العمد الذي استمر، ولا يزال كل يوم، عاماً وأكثر، والذي يجب ردّه إلى بداية ثورة 25 يناير، هذا الحديث إنما يراد منه أن يقال إن قضية الدم محلولة، والدفاتر دفاترنا، والخليج وفلوسه مضمونة. إذن، الدماء ليست مصونة ولا محقونة، الدماء هدر طالما القضية لها ثمن، والأموال موجودة، "إنه الإغراء بالقتل".
السؤال الحقيقي الذي يجد له إجابة واضحة قاطعة، لا تحتمل التحايل أو التلاعب أو التواطؤ على الكذب فيها، لماذا لم يجعل الله تعالى في القتل العمد ديّة؟ لأن القاتل المتعمد، لو علم أن الدية هي جزاء من قتله متعمداً؛ لاستحرّ القتلُ في الناس، وأفنى بعضهم بعضاً. لأن المال هين، ولا يمنع قتل النفس، إلا قتل النفس القاتلة؛ القصاص..القصاص.
يخرج سدنة الانقلاب ودهاقنته وكهنة الدين الجديد اليوم، ليتمموا جريمتهم، ويكملوا جميلهم لحساب قائد الانقلاب، ويتحدثوا عن الدية، يموهون على الناس دينهم، ويلصقوا بالإسلام خيبتهم الثقيلة، وعارهم الذي لن يمّحى. لا دية في العمد، ولا كفارة. ويستدعي حديث الدية أن يكون القتل الذي جرى، ولا يزال يجري، في ربوع مصر كان قتلاً خطأ. إن في ذلك لخبث ما بعده خبث، وتحريف للدين، بعد إفساد الدنيا الناس وترويعهم وخداعهم وتفزيعهم. قتل العمد لعنة ما بعدها لعنة، لو كان جزاؤه كما يدّعي الأفاكون في قيمة مالية، كائنة ما كانت، لاستخف الناس بالدماء، ولخاضوا فيها بلا رادع ولا خشية، هذا ما يريده الأفاكون؟ أن يقال: الدم له ثمن، والثمن ممكن دفعه.
أول قواعد القود، القصاص، أن يقاد القاتل الجاني المجرم الملعون إلى أولياء القاتل، وأن يمكنوا من رقبته، ثم هم بالخيار: إما القصاص، وهو حقهم المطلق الذي لا يدخله إغراء ولا إكراه، أو العفو والمصالحة؛ إحساناً وتكرماً. لكن المعروض اليوم من الانقلابيين، أن يتكرموا ويعفوا عن المقتول، ويصالحوه بمال. النفوس في عرف هؤلاء تُشترى بالمال، إن كانت حية إغراءً، وإن كانت مقتولة إزهاقاً. يا الله كيف لهؤلاء يستهينون بالنفوس إفساداً بمالهم، أو شراء لنفوسهم، إعفاء لمسؤوليتهم عن سفك الدماء بمالهم الوفير، كل شيء يُشترى، الاستهانة بالنفوس ديدنهم، والمال وسيلتهم، من قتل نفساً بغير نفس، فلنشتر النفوس جميعاً. إنها الاستهانة على طريق استباحة حرمات الإنسان، ضمن مسيرة معروفة لدى هؤلاء، تبدأ بالتبرير، وتنتهي بعملية تزوير كاملة، مروراً بالتمرير لصاحب السلطان والطغيان، والتغرير بصاحب وولي الدم، مستخفاً بحرمات كل مواطن وإنسان.
عجيب أن هذا النفر الأفاك الأثيم لا يطرح هذا المخرج، أو الحيلة المحرمة المجرمة، فيما يتعلق بالمعتدى عليهم، لم يبحثوا لهم عن مخرج، إلا مخرجاً من الحياة نفسها، لم يبحثوا لمن حكم عليهم المجانين بالإعدامات بالجملة عن "دية"، ولو كذباً وزوراً. تواطأ كل هؤلاء على المقتول لمصلحة القاتل، التمسوا كل حيلة ليذكروننا بباب الحيل الفقهية، لتمرير القاتل بقتله، وإرغام المقتول أو أهله من أولياء دمه، بالإذعان لثمن النفوس والأرواح، فتذهب الحكمة والمعنى والمغزى، "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب".
الأعجب أن يأتي ذلك، في الوقت الذي يحكم فيه الشامخ فى مرفق العدالة على علماء في الشريعة وأساتذة أزهريين بالإعدام، ويحيل أوراقهم إلى مفتي الانقلاب، ولا يتحدث أي منهم عن الدية والمصالحة من هذه الزاوية، فالشريعة تفصل، اليوم، على مقاس رجل واحد، كأنما أنزلت له وحده، ولقبيلته، أو لعلها شريعته التي أوحى بها إليهم، شريعة فرعون القديم الجديد، "ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
حديث الدية اليوم مهين، يأتي بعد أن شبع القاتل من شرب الدم، وأكل اللحم؛ لكي يقول للضحية: نأسف لهذا الخطأ، كان القتل لغاية، وقد تحققت، ويمكننا، الآن، أن نعالج الآثار الجانبية لاستعادة الدولة وتتويج ملكها المقدس؛ إن قتلكم وحرقكم وخنقكم واستباحة الأعراض والنفوس، وإهدار الحريات والحقوق والكرامة، كانت آثاراً جانبية، وأموراً عارضة، لا تهتموا بها كثيراً، هكذا حل النفوس عندكم.
هذا ليس عرضاً، إنه الفرض؛ لسبب واحد واضح: إنه لا بديل. إما أن تقبلوا الدية الكاذبة الخاطئة، وإلا فلتنتظروا مزيداً من الدم. يحاكمون من قال دمي دون دمكم، دمي أنا، وإياكم والدم، ويتركون من قال: نحن أداة قتل، ومن قال: اقتلوهم، ماذا تنتظرون؟
حديث الدية ينسى أن الدم ليس دم فردٍ، تتم ترضيته بإغراء وخداع، أو إكراه وتخويف، إنه دم أمة استبيح على أعين العالمين. أين الحق العام في الدم، يا أساتذة الشريعة والقانون؟ إذا كان قد قتل، أو تسبب في القتل، أو باشره، فأين التوبة؟ وأين الكفارة؟ أم أنكم يُتاب إليكم ولا تتوبون؟ ويتوسل إليكم ولا تخشعون؟ وتطلب رحمتكم ولا تطلبون؟ إلا اذهبوا فسوف تسألون.
أليس في قتل الخطأ تحرير رقبة قبل الدية؟ فهلا حررتم رقبة الشعب من استبدادكم؟ وهل حررتم فقراءه من فسادكم ونهبكم وغصبكم وسلبكم؟ وهلا حررتم إرادة الشعب من أسركم وأسر أسيادكم؟ وهلا حررتم أبناء الشعب، وقادته، من قهركم وتغلبكم وقولكم (إنا فوقهم قاهرون).
قتلتم الشباب والبنات والرجال والنساء، عمدًا وقصداً، مع سبق إصرار وعناد وترصد وإعداد واستعداد، وإعلان صريح مستبيح، فلا نقول لكم إلا ما قاله الله تعالى، وأنزله عليكم من اللعنات، وأعده لكم من الويلات، إنها مسرحية الديات، بعد مسرحية الانتخابات، في غفلة أو إغفال متعمد من كل هؤلاء، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً).