تنقلنا جنى الحسن في روايتها "طابق 99" التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية، إلى سنوات الحرب اللبنانية بكل مصائبها وآلامها. من القتل على الهوية والقصف العشوائي وصبرا وشاتيلا، إلى ليالي الحب والعشق في نيويورك بين جيل ما بعد الحرب، يمثله شاب فلسطيني "مجد" وشابة لبنانية مسيحية "هيلدا".
مجد قُتلت أمّه الحامل في مجزرة صبرا وشاتيلا وأصيب هو بجرحين في وجهه ورجله، تركا ندبة بادية على وجهه وعرجاً ماثلاً في مشيته جراء الجرح. وهيلدا طالبة الرقص الجميلة التي تنتمي إلى أسرة حزبية معادية للفلسطينيين، فقدت عمّها الذي انتحر بعد أن قال إنه قتل ثلاثة من الفدائيين الفلسطينيين. أبوها قائد في حزب لبناني مسيحي توحي الوقائع بأنه حزب كبير.
مجد وهيلدا كانا طفلين إبان الحرب التي لم يكن لهما فيها أي شأن. أب مجد وبمعرفة بعض أقاربه قرر أن يهاجر إلى أميركا ليتابع ابنه دراسته فيها بعيداً عن أرض الحروب والويلات، دون أن ينسى وطنه السليب "فلسطين"، وهيلدا قررت متابعة دراستها للرقص في أميركا بعيداً عن الأمر نفسه.
تعارفا مصادفة في نيويورك بعدما أصبح مجد رجل أعمال ناجحاً في صناعة تكنولوجيا لعب الأطفال وأصبحت هيلدا راقصة محترفة. لم يشكل عرج مجد حاجزاً أمام هيلدا، ولا كذلك الندبة في وجهه، بل أحبته بكل جوارحها .. وهو أحبها من أعماق قلبه، يقول: "كلما فكرت في هيلدا، شعرت كما لو أن خلايا الجلد التي تآكلت من وجهي ورسمت فيه تلك الندبة، صارت تلد خلايا أخرى نضرة وطازجة، وأن جلداً ينبعث من تحت اللحم، وأن الدم بات أخضر يزهر كريات بيضاً وحمراً وصفراً لأصبح فجأة جميلاً".
يبدأ القلق حين تقرر هيلدا الذهاب إلى لبنان للزيارة. فمجد يتخوف من أن تتخلى عنه ولا تعود إلى أميركا، وإن عادت فقد لا تعود إلا من أجل الرقص الذي تعشقه وليس من أجله. ورغم أنها ظلت تحادثه وتراسله إلا أنه لم يجب على رسائلها.
"كان قد مضى على رحيل هيلدا أكثر من ستة أشهر. انقطعت رسائلها ومكالماتها منذ أكثر من ثلاثة أشهر ولم أحاول أن أتصل بها. بدا لي أنها لن تعود وأنه يجدر بي أن أنساها إلى الأبد".
لم تتأقلم هيلدا طوال ستة أشهر مع حياة أهلها، فأختها ماتيلدا التي كانت مدمنة مخدرات ووضعت في مصح لتركها، ما تزال مخلصة لوالدها وترى أنه رجل عظيم ولم يظلمها كما ترى هيلدا، وتأمل أن يسامحها: "أريد أن أتطهر من أخطائي عساه يسامحني يوماً ما".
تشعر هيلدا أنها امرأة مختلفة عن أهلها، وأن "هوة كبيرة بيني وبينهم، كأنني لم أعرفهم يوماً، وكأن هذه الفتاة التي كانوا جميعاً يحبونها ويلاعبونها لم تكن يوماً أنا". وراحت تحن إلى مجد: "كنت أحتاج أن أكلمك لأشعر أن هيلدا أخرى ما زالت في مكان ما"، وتكمل "اليوم تحديداً بدا لي غيابي عنك قاسياً، كما لو أن هناك ثقباً في رحمي لا يمكن أن يملأه سواك".
لم تجد هيلدا ضالتها في لبنان إلا في شاب يتيم (جورجيو) جننته الظروف الاجتماعية غير الإنسانية. لمحته من الشرفة يركض هرباً من الأولاد فأسرعت لنجدته. وجدت رجله مجروحة بعد أن وقع، واصطحبته إلى البيت وأسعفته. هذا الأمر أغضب الأب كثيراً. لا يريد أن يرى مجنوناً في المنزل وبصحبة ابنته المحبوبة. وحين تشير هيلدا أن هذا من حقها، يصرخ الأب قائلاً: "هذا منزلي وقواعدي تسري هنا". ترد هيلدا: "أتركه لك من غير عودة". وهذا ما كان.
قبل رحيلها، راحت تحكي لهم على مائدة الطعام عن الشاب اللطيف الناجح في عمله الذي أحبته في نيويورك وأحبها بدوره كثيراً.. كانوا جميعاً صامتين .. وحين سألتها أختها لماذا لم تخبرهم من قبل ولماذا لم يأت معها؟
فجرت هيلدا قنبلتها:
"آه نسيت أن أخبركم أن أصله فلسطيني، وأن هذه هي آثار شظية أصيب بها في مخيم صبرا وشاتيلا".
تعود هيلدا إلى نيويورك لا لترقص فحسب، بل لتجدد الحب مع مجد وليبدآ معاً فصلاً جديداً وزمناً جديداً لأجيال جديدة أبقت الماضي في مهده.
لم نتطرق إلا إلى البناء الدرامي الأساس الذي أقامت عليه جنى الحسن خطابها الروائي الجميل حقاً. فهناك خطوط درامية أخرى رافدة ومساعدة هامة جداً. هناك محسن الفلسطيني المغرم بالنساء وايفا المكسيكية، وهناك ماريان الأميركية التي مات زوجها في حرب الخليج الأولى ولم يعثر على جثته، تاركاً خلفه زوجة وطفلين. وحين أقيمت له جنازة رمزية رثته بكلمات مؤثرة جداً. وهناك خطوط درامية رافدة أخرى.
كما أننا لم نتطرق إلى الشكل الفني في الرواية وإلى الرواة أنفسهم، لضيق المساحة. لكن يبقى أن الرواية تُروى على لسان مجد وهيلدا. وثمة فصول قليلة جداً تُروى على لسان راوٍ. ولكن كان لمجد الدور الأكبر والأهم في السرد.
(كاتب فلسطيني)
مجد وهيلدا كانا طفلين إبان الحرب التي لم يكن لهما فيها أي شأن. أب مجد وبمعرفة بعض أقاربه قرر أن يهاجر إلى أميركا ليتابع ابنه دراسته فيها بعيداً عن أرض الحروب والويلات، دون أن ينسى وطنه السليب "فلسطين"، وهيلدا قررت متابعة دراستها للرقص في أميركا بعيداً عن الأمر نفسه.
تعارفا مصادفة في نيويورك بعدما أصبح مجد رجل أعمال ناجحاً في صناعة تكنولوجيا لعب الأطفال وأصبحت هيلدا راقصة محترفة. لم يشكل عرج مجد حاجزاً أمام هيلدا، ولا كذلك الندبة في وجهه، بل أحبته بكل جوارحها .. وهو أحبها من أعماق قلبه، يقول: "كلما فكرت في هيلدا، شعرت كما لو أن خلايا الجلد التي تآكلت من وجهي ورسمت فيه تلك الندبة، صارت تلد خلايا أخرى نضرة وطازجة، وأن جلداً ينبعث من تحت اللحم، وأن الدم بات أخضر يزهر كريات بيضاً وحمراً وصفراً لأصبح فجأة جميلاً".
يبدأ القلق حين تقرر هيلدا الذهاب إلى لبنان للزيارة. فمجد يتخوف من أن تتخلى عنه ولا تعود إلى أميركا، وإن عادت فقد لا تعود إلا من أجل الرقص الذي تعشقه وليس من أجله. ورغم أنها ظلت تحادثه وتراسله إلا أنه لم يجب على رسائلها.
"كان قد مضى على رحيل هيلدا أكثر من ستة أشهر. انقطعت رسائلها ومكالماتها منذ أكثر من ثلاثة أشهر ولم أحاول أن أتصل بها. بدا لي أنها لن تعود وأنه يجدر بي أن أنساها إلى الأبد".
لم تتأقلم هيلدا طوال ستة أشهر مع حياة أهلها، فأختها ماتيلدا التي كانت مدمنة مخدرات ووضعت في مصح لتركها، ما تزال مخلصة لوالدها وترى أنه رجل عظيم ولم يظلمها كما ترى هيلدا، وتأمل أن يسامحها: "أريد أن أتطهر من أخطائي عساه يسامحني يوماً ما".
تشعر هيلدا أنها امرأة مختلفة عن أهلها، وأن "هوة كبيرة بيني وبينهم، كأنني لم أعرفهم يوماً، وكأن هذه الفتاة التي كانوا جميعاً يحبونها ويلاعبونها لم تكن يوماً أنا". وراحت تحن إلى مجد: "كنت أحتاج أن أكلمك لأشعر أن هيلدا أخرى ما زالت في مكان ما"، وتكمل "اليوم تحديداً بدا لي غيابي عنك قاسياً، كما لو أن هناك ثقباً في رحمي لا يمكن أن يملأه سواك".
لم تجد هيلدا ضالتها في لبنان إلا في شاب يتيم (جورجيو) جننته الظروف الاجتماعية غير الإنسانية. لمحته من الشرفة يركض هرباً من الأولاد فأسرعت لنجدته. وجدت رجله مجروحة بعد أن وقع، واصطحبته إلى البيت وأسعفته. هذا الأمر أغضب الأب كثيراً. لا يريد أن يرى مجنوناً في المنزل وبصحبة ابنته المحبوبة. وحين تشير هيلدا أن هذا من حقها، يصرخ الأب قائلاً: "هذا منزلي وقواعدي تسري هنا". ترد هيلدا: "أتركه لك من غير عودة". وهذا ما كان.
قبل رحيلها، راحت تحكي لهم على مائدة الطعام عن الشاب اللطيف الناجح في عمله الذي أحبته في نيويورك وأحبها بدوره كثيراً.. كانوا جميعاً صامتين .. وحين سألتها أختها لماذا لم تخبرهم من قبل ولماذا لم يأت معها؟
فجرت هيلدا قنبلتها:
"آه نسيت أن أخبركم أن أصله فلسطيني، وأن هذه هي آثار شظية أصيب بها في مخيم صبرا وشاتيلا".
تعود هيلدا إلى نيويورك لا لترقص فحسب، بل لتجدد الحب مع مجد وليبدآ معاً فصلاً جديداً وزمناً جديداً لأجيال جديدة أبقت الماضي في مهده.
لم نتطرق إلا إلى البناء الدرامي الأساس الذي أقامت عليه جنى الحسن خطابها الروائي الجميل حقاً. فهناك خطوط درامية أخرى رافدة ومساعدة هامة جداً. هناك محسن الفلسطيني المغرم بالنساء وايفا المكسيكية، وهناك ماريان الأميركية التي مات زوجها في حرب الخليج الأولى ولم يعثر على جثته، تاركاً خلفه زوجة وطفلين. وحين أقيمت له جنازة رمزية رثته بكلمات مؤثرة جداً. وهناك خطوط درامية رافدة أخرى.
كما أننا لم نتطرق إلى الشكل الفني في الرواية وإلى الرواة أنفسهم، لضيق المساحة. لكن يبقى أن الرواية تُروى على لسان مجد وهيلدا. وثمة فصول قليلة جداً تُروى على لسان راوٍ. ولكن كان لمجد الدور الأكبر والأهم في السرد.
(كاتب فلسطيني)