12 اغسطس 2018
حاجة تونس للحكم الصالح
بعد أن أدرج البرلمان الأوروبي، في جلسة عامة في مقره في بروكسل، الأسبوع الماضي، تونس (مع سيريلانكا وترينيتي توباغو) ضمن قائمة سوداء جديدة تتعلق، هذه المرّة، بالدول الأكثر عرضة لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تم توجيه انتقادات لاذعة من أحزاب سياسية تونسية عديدة، وخبراء اقتصاديين، لرئيس البنك المركزي التونسي، الشاذلي العياري، بسبب مسؤوليته المباشرة وغير المباشرة في ارتباك السياسة النقدية في البلاد، ما أسهم في انهيار الدينار التونسي، ورفع الحماية عنه، فضلاً عن انهيار احتياطي العملة الصعبة إلى 84 يوماً، وهو أمر لم يحصل منذ أكثر من 20 عاماً، وعدم اتخاذه قرارات وإجراءات ردعية، لوضع حدٍّ للتمويلات المشبوهة وشبهات غسل الأموال، على الرغم من اعتراف البنك المركزي بوجودها من خلال تقارير لجنة التحاليل المالية..
وعلى الرغم من أن البنك المركزي التونسي أصدر بيانًا داخليًا في 19سبتمبر/ أيلول 2017، موجهًا إلى البنوك والمؤسسات المالية، بهدف التصرف في مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، يتضمّن إجراءات تلزم المؤسّسات المالية بتعزيز المراقبة الداخلية للتصرف في مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فإنّ هذه الإجراءات اعتبرها خبراء ماليون واقتصاديون متأخرة جدًّا، لا سيما بعد صدور تقارير دولية وضعت تونس ضمن الدول المتقاعسة في مكافحة ظاهرة غسل الأموال وتمويل الإرهاب خلال السنة الماضية، بعد أن تراجع تصنيفها على مؤشر "بازل" لسنة 2017.
يمثل تصنيف تونس في قائمة البلدان عالية المخاطر في تبييض الارهاب وغسل الأموال كارثة حقيقية لبلدٍ نال جائزة نوبل للسلام في سنة 2015، حين حقق انتقالاً ديمقراطيًا ناجحًا في العالم العربي، ويضرب مصداقية تونس، ويلوث صورتها في الخارج بلداً يمكن فيه تبييض الأموال بسهولة، ويمس سمعة المؤسسات التونسية، وسينعكس سلبيًا على كل شيء، على التمويلات الأجنبية، والاستثمار، وعلاقات تونس الخارجية.. بيد أنّ السؤال المطروح: من الذي يتحمل المسؤولية فيما حدث؟
المسؤولية الرئيسة يتحملها محافظ البنك المركزي ونائبه ولجنة التحاليل المالية، بوصفهم الأطراف الذين يمتلكون صلاحيات واسعة لاتخاذ قرارات ردعية وصارمة وفورية لمنع تبييض الأموال، وتتبّع المال المشبوه والعمليات المالية المسترابة، والتي كانت تتم، ومنذ سنة 2011، عن طريق الجمعيات الخيرية الدينية المتطرفة أساساً.. لكنهم لم يفعلوا شيئاً. غير أن المسؤولية لن تقف عندهم، بل تتحمل الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2012 مسؤولية رئيسة أيضاً، في عهد حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة الإسلامية، وفي عهد الائتلاف الحاكم الحالي بين حزب نداء تونس و"النهضة". وفي سبيل المحافظة على الدعم الانتخابي وتحويله إلى قوة إسناد في الحكم، شرع الحزب الحاكم الجديد، بدعم من حزب النهضة، في تسوية ملف رجال الأعمال الفاسدين، من خلال وضع إطار قانوني، تمثَّل في المصادقة على قانون المصالحة الاقتصادية، وطيّ ملف رجال الأعمال المتورطين في الفساد، عقب التسويات السياسية التي جرت أخيراً، داخل الائتلاف الحاكم، بين حزبي نداء تونس والنهضة.
في ظل "الديموقراطية التونسية" الهشّة، تغولت إمبراطورية الفساد المالي الملون بطعم السياسة والديموقراطية، والمحمية سياسيًا من الحزبين الحاكمين الرئيسيين، ولم تجد الحكومة التونسية، بقيادة يوسف الشاهد، من بديل سوى السياسات الترقيعية التي ترفع شعاراتٍ فضفاضة تتعلق بـ"الحوار الوطني حول التشغيل"، وعجزت عن محاربة الفساد، من خلال موضوع مراجعة المجلة الجبائية، والبحث عن أطر قانونية تضمن العدالة الجبائية، ومكافحة التهرّب الضريبي التي لا تزال في منزلة تلك الخطوط الحمراء التي لا يجوز مسّها.
وتكمن خطورة القرار الأوروبي في تداعياته على وضع تونس، لا سيما في مجال التقييمات الاقتصادية والمالية الدولية التي تسندها الوكالات العالمية المختصة في ميدان مكافحة الفساد، إذ يمكن أن يكون لهذا القرار دور في تعقيد حصول تونس على قروض وتمويلات أجنبية، بما فيها قروض صندوق النقد الدولي، باعتبار أن جل المؤسسات الدولية المانحة ترفض تمويل بلدان مصنفة في قوائم سوداء عالية المخاطر، علمًا أن تونس تستعد لإصدار قرض رقاعي في السوق المالية العالمية في الأسابيع المقبلة.
تحتاج تونس الآن إلى الحكم الصالح (الراشد)، وتبيئته في البلاد، في ظل هيمنة طبقة سياسية فاسدة، وغياب كامل لهيبة الدولة الوطنية، وعدم إعطاء دور كاف لهيئات الحكم المحلي، ناهيكم عن إبعاد مؤسسات المجتمع المدني من المساهمة، وعدم توّفر بيئة صالحة سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية لذلك، وغياب كامل لمفهوم التنمية المستدامة، والحكم الصالح (الراشد) في الخطاب السياسي الرسمي، فحتى عهد قريب، وربما قبيل صدور القرار الأوروبي، كان المقصود بالتنمية في استراتيجية الحكومة التونسية هو النمو الاقتصادي. بينما المطلوب من الدولة التونسية التركيز على التنمية المستدامة، أي الانتقال من الرأسمال البشري إلى الرأسمال الاجتماعي، وصولاً إلى التنمية الإنسانية، ببعدها الشامل، أي الترابط بكل مستويات النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي، بالاستناد إلى نهج متكامل، يعتمد على مبدأ المشاركة والتخطيط الطويل الأمد في حقول التعليم والتربية والثقافة والإسكان والصحة والبيئة
وغيرها، ويتوخى قدرًا من العدالة والمساءلة والشرعية والتمثيل. من هنا، نشأت العلاقة بين مفهوم الحكم الصالح (الراشد) والتنمية الانسانية المستدامة، لأن الحكم الراشد هو الضامن لتحويل النمو الاقتصادي الى تنمية إنسانية مستدامة.
تتضمن إدارة شؤون البلاد التونسية من خلال الحكم الصالح ثلاثة أبعاد مترابطة، وهي: البعد السياسي الديمقراطي الذي يعتبر ركيزة أساسية لوجود سلطة سياسية ديمقراطية حقيقية، تلتزم بانتهاج خيار اقتصادي – اجتماعي تنموي مستقل، يخدم أهداف التنمية، لكن هذا البعد، على أهميته، يكون ناقصًا، إنْ لم يقترن بوجود البعدين الآخرين: الإدارة العامة والمجتمع المدني الفاعل والنشيط، فالتنمية الشاملة تحتاج مثل هذه السلطة السياسية الديمقراطية التي تؤمن ببناء دولة المؤسسات، وتلتزم تطبيق مبدأ المشاركة السياسية، والمحاسبة، والشفافية، وإلى بناء الإدارة العامة الكفؤة والفاعلة، وإفساح المجال لوجود مكونات حقيقية للمجتمع المدني، تتعامل مع الدولة من موقع الندّية، وترفض هيمنتها، وتشارك في رسم السياسات العامة، ومراقبة السلطة السياسية والإدارية ومحاسبتها. ولذلك، الحكم الصالح هو الذي يتضمن حُكْمًا ديمقراطيًا فعالاً، ويستند إلى المشاركة والمحاسبة والشفافية، ومحاربة الفساد أساسًا.
وعلى الرغم من أن البنك المركزي التونسي أصدر بيانًا داخليًا في 19سبتمبر/ أيلول 2017، موجهًا إلى البنوك والمؤسسات المالية، بهدف التصرف في مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، يتضمّن إجراءات تلزم المؤسّسات المالية بتعزيز المراقبة الداخلية للتصرف في مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فإنّ هذه الإجراءات اعتبرها خبراء ماليون واقتصاديون متأخرة جدًّا، لا سيما بعد صدور تقارير دولية وضعت تونس ضمن الدول المتقاعسة في مكافحة ظاهرة غسل الأموال وتمويل الإرهاب خلال السنة الماضية، بعد أن تراجع تصنيفها على مؤشر "بازل" لسنة 2017.
يمثل تصنيف تونس في قائمة البلدان عالية المخاطر في تبييض الارهاب وغسل الأموال كارثة حقيقية لبلدٍ نال جائزة نوبل للسلام في سنة 2015، حين حقق انتقالاً ديمقراطيًا ناجحًا في العالم العربي، ويضرب مصداقية تونس، ويلوث صورتها في الخارج بلداً يمكن فيه تبييض الأموال بسهولة، ويمس سمعة المؤسسات التونسية، وسينعكس سلبيًا على كل شيء، على التمويلات الأجنبية، والاستثمار، وعلاقات تونس الخارجية.. بيد أنّ السؤال المطروح: من الذي يتحمل المسؤولية فيما حدث؟
المسؤولية الرئيسة يتحملها محافظ البنك المركزي ونائبه ولجنة التحاليل المالية، بوصفهم الأطراف الذين يمتلكون صلاحيات واسعة لاتخاذ قرارات ردعية وصارمة وفورية لمنع تبييض الأموال، وتتبّع المال المشبوه والعمليات المالية المسترابة، والتي كانت تتم، ومنذ سنة 2011، عن طريق الجمعيات الخيرية الدينية المتطرفة أساساً.. لكنهم لم يفعلوا شيئاً. غير أن المسؤولية لن تقف عندهم، بل تتحمل الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2012 مسؤولية رئيسة أيضاً، في عهد حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة الإسلامية، وفي عهد الائتلاف الحاكم الحالي بين حزب نداء تونس و"النهضة". وفي سبيل المحافظة على الدعم الانتخابي وتحويله إلى قوة إسناد في الحكم، شرع الحزب الحاكم الجديد، بدعم من حزب النهضة، في تسوية ملف رجال الأعمال الفاسدين، من خلال وضع إطار قانوني، تمثَّل في المصادقة على قانون المصالحة الاقتصادية، وطيّ ملف رجال الأعمال المتورطين في الفساد، عقب التسويات السياسية التي جرت أخيراً، داخل الائتلاف الحاكم، بين حزبي نداء تونس والنهضة.
في ظل "الديموقراطية التونسية" الهشّة، تغولت إمبراطورية الفساد المالي الملون بطعم السياسة والديموقراطية، والمحمية سياسيًا من الحزبين الحاكمين الرئيسيين، ولم تجد الحكومة التونسية، بقيادة يوسف الشاهد، من بديل سوى السياسات الترقيعية التي ترفع شعاراتٍ فضفاضة تتعلق بـ"الحوار الوطني حول التشغيل"، وعجزت عن محاربة الفساد، من خلال موضوع مراجعة المجلة الجبائية، والبحث عن أطر قانونية تضمن العدالة الجبائية، ومكافحة التهرّب الضريبي التي لا تزال في منزلة تلك الخطوط الحمراء التي لا يجوز مسّها.
وتكمن خطورة القرار الأوروبي في تداعياته على وضع تونس، لا سيما في مجال التقييمات الاقتصادية والمالية الدولية التي تسندها الوكالات العالمية المختصة في ميدان مكافحة الفساد، إذ يمكن أن يكون لهذا القرار دور في تعقيد حصول تونس على قروض وتمويلات أجنبية، بما فيها قروض صندوق النقد الدولي، باعتبار أن جل المؤسسات الدولية المانحة ترفض تمويل بلدان مصنفة في قوائم سوداء عالية المخاطر، علمًا أن تونس تستعد لإصدار قرض رقاعي في السوق المالية العالمية في الأسابيع المقبلة.
تحتاج تونس الآن إلى الحكم الصالح (الراشد)، وتبيئته في البلاد، في ظل هيمنة طبقة سياسية فاسدة، وغياب كامل لهيبة الدولة الوطنية، وعدم إعطاء دور كاف لهيئات الحكم المحلي، ناهيكم عن إبعاد مؤسسات المجتمع المدني من المساهمة، وعدم توّفر بيئة صالحة سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية لذلك، وغياب كامل لمفهوم التنمية المستدامة، والحكم الصالح (الراشد) في الخطاب السياسي الرسمي، فحتى عهد قريب، وربما قبيل صدور القرار الأوروبي، كان المقصود بالتنمية في استراتيجية الحكومة التونسية هو النمو الاقتصادي. بينما المطلوب من الدولة التونسية التركيز على التنمية المستدامة، أي الانتقال من الرأسمال البشري إلى الرأسمال الاجتماعي، وصولاً إلى التنمية الإنسانية، ببعدها الشامل، أي الترابط بكل مستويات النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي، بالاستناد إلى نهج متكامل، يعتمد على مبدأ المشاركة والتخطيط الطويل الأمد في حقول التعليم والتربية والثقافة والإسكان والصحة والبيئة
تتضمن إدارة شؤون البلاد التونسية من خلال الحكم الصالح ثلاثة أبعاد مترابطة، وهي: البعد السياسي الديمقراطي الذي يعتبر ركيزة أساسية لوجود سلطة سياسية ديمقراطية حقيقية، تلتزم بانتهاج خيار اقتصادي – اجتماعي تنموي مستقل، يخدم أهداف التنمية، لكن هذا البعد، على أهميته، يكون ناقصًا، إنْ لم يقترن بوجود البعدين الآخرين: الإدارة العامة والمجتمع المدني الفاعل والنشيط، فالتنمية الشاملة تحتاج مثل هذه السلطة السياسية الديمقراطية التي تؤمن ببناء دولة المؤسسات، وتلتزم تطبيق مبدأ المشاركة السياسية، والمحاسبة، والشفافية، وإلى بناء الإدارة العامة الكفؤة والفاعلة، وإفساح المجال لوجود مكونات حقيقية للمجتمع المدني، تتعامل مع الدولة من موقع الندّية، وترفض هيمنتها، وتشارك في رسم السياسات العامة، ومراقبة السلطة السياسية والإدارية ومحاسبتها. ولذلك، الحكم الصالح هو الذي يتضمن حُكْمًا ديمقراطيًا فعالاً، ويستند إلى المشاركة والمحاسبة والشفافية، ومحاربة الفساد أساسًا.