جِهَادٌ إسْلَامِيٌ... بِلكْنَةٍ ألمانية
بقي الشرق موضع تساؤل وحيرة للدول والإمبراطوريات الغربية، ومع ازدهار عوالم المسيحية والإسلام والاحتكاك الحضاري بينها، بدأت مرحلة جدية في العصور الوسطى بعد موجة الحروب الصليبية تحديداً، لاكتشاف هذه "الجوهرة الثمينة". ومنذ القرن الخامس عشر الميلادي بدأت هذه الحركة في محاولة لفهم كل ما يدور في هذه البقعة من العالم على كل من الصعيد الديني والثقافي واللغوي والفكري والإجتماعي، عرفت لاحقاً بمصطلح الاستشراق.
مع اشتداد هذه الحركة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتصاقها التصاقاً وثيقاً بالنَهم الكولونيالي وتنافس إمبراطوريات أوروبا الغربية في سباقها الاستعماري، نخص بالذكر بريطانيا وفرنسا وألمانيا، هذا التنافس الذي حط رحاله في عوالم الإسلام وبالأخص السلطنة العثمانية، وكون تلك السلطنة هي مركز خلافة المسلمين، وقع الدين الإسلامي فريسة الاستغلال السياسي ووظف في مشاريع ومسائل بعيدة كل البعد عن أبعادها الدينية في جوهرها.
الحلف الألماني - العثماني
بعد العام 1871 شكلت ألمانيا كوحدة سياسية واقتصادية من حيث المنتوج الصناعي والعسكري والمساحة وعدد السكان أكبر حالة تهديدية أوروبية للدول الاستعمارية. وكنتيجة، استعرت سياسة الأحلاف بين دول أوروبا، فألمانيا لم تكف عن محاولتها تبوؤ زعامة العالم والوقوف بوجه القوتين الجبارتين التقليديتين، فرنسا وبريطانيا.
كانت الإمبراطوية الألمانية على الرغم من معرفتها بعدم جدوى تحالفها مع السلطنة العثمانية المتهالكة متحمسة على عكس جميع الدول الأوروبية وذلك لأسباب اقتصادية وسياسية، فكلا البلدين لديهما مصالح مشتركة. السلطنة العثمانية كانت بأمس الحاجة إلى توسعة "قطار الشرق السريع" والذي يربط القسطنطينية مروراً بباريس إلى لندن وجعله يتمدد جنوباً نحو الأناضول وبغداد..
في العام 1903 كان العمل على سكة حديد بغداد قد بدأ، ومن أهداف المشروع أنه يعزز اتصال السلطنة بالدول الأوروبية الصناعية. المشروع الذي كان تحت رعاية وتمويل ألمانيين يزيد أيضاً من فرص ألمانيا السياسية في الوصول إلى الهند وأسواقها كما يسهل الاتصال بالمستعمرات الألمانية في شرق أفريقيا وبناء مرفأ تجاري على الخليج الفارسي، أي بمعنى أوضح، إحداث خرق ألماني لممتلكات بريطانيا في الشرق.
قُدر حجم المصالح الألمانية التجارية والاستثمارية داخل السلطنة بالضخمة، مما فرض عليها الوقوف إلى جانبها. بالنسبة للدولة العثمانية كانت حاجتها الاقتصادية والإدارية من حيث الإصلاح والتحديث السبب الرئيس بالتطلع إلى ألمانيا لتكون حليفتها والاستفادة من قدراتها في الميدان الاقتصادي والعسكري والتجاري. واعتبرت زيارة القيصر وليام الثاني الأولى إلى السلطنة في العام 1889 بداية عهد جديد توج بحلف ألماني - عثماني والذي تعزز في الزيارة الثانية للقيصر في العام 1899 بحيث شملت الزيارة مناطق عدة جديدة فزار القدس و"دخلها في سلام عكس الفرنجة الذين دخلوها بالسيف" على حد تعبيره، ونزل في بيروت قبل الانتقال إلى دمشق حيث زار قبر صلاح الدين، واصفاً إياه بـ"المجاهد الباسل" ثم عاد للتخييم في هياكل قلعة بعلبك في لبنان، وبدأ عامة الناس يطلقون عليه لقب "الحاج وليام".
الثقافة ببعديها الديني والاجتماعي
أظهر الألمان اهتماما جدياً بدراسة الثقافات الشرقية والعالم الإسلامي، مما أسهم في كثرة إرسال بعثات التنقيب الأركيولوجية، ونشر الدراسات الأنثروبولوجية لفهم العقل "السوسيو - ديني" للعالم الإسلامي والجماعات المشرقية، إحدى نقاط ألمانيا القوية والتي استغلتها أحسن استغلال، أنها كانت بلا ماضٍ استعماري داخل البلدان الإسلامية ولا تحكم أي بلد إسلامي باستثناء مدينة زنجبار في شرق أفريقيا، وهذا ما عد مؤشرا على براءة الألمان من تخريب البلاد الإسلامية ونهب ثرواتها، فرأت في التقارب مع الدولة العثمانية سلاحاً فعالاً في صراعها مع بريطانيا وفرنسا، كما لاقت من الاستحسان والترحيب من الشعوب الإسلامية ما لم تلاقه بريطانيا وفرنسا.
خدمة لمشروعها الإستعماري أسست ألمانيا في العام 1908 المعهد الكولونيالي "Kolonialinstitut" -جامعة هامبورغ حالياً- والذي انصب دوره على تقديم المشورات اللازمة للمستشرقين وتوجيه نشاطهم تحت إشراف المستشرق الكبير كارل هاينريش بيكير الذي أسس في العام 1910 مجلة تعنى بالشؤون الثقافية والتاريخية للشرق الأوسط سماها الإسلام.. "Der Islam".
التقارب العسكري
في العام 1914 وُقع الاتفاق العسكري بين ألمانيا والسلطنة العثمانية وأرسل ليمان فون ساندرس على رأس البعثة العسكرية الألمانية إلى السلطنة العثمانية للإشراف على تدريب وتنظيم الجيش العثماني حيث بدا واضحاً التأثير الألماني على الجيش التركي، إذا إن ثلاثة من ألمع ضباط القيصر كانوا قادة لثلاثة جيوش عثمانية من أصل سبعة استحدثت حديثاً، وعندما استهلت العمليات الحربية في أوروبا واتسعت رقعة المواجهات العسكرية إلى خارج القارة بعد أزمة يوليو/ تموز، أسس في برلين "مكتب استخبارات الشرق - Nachrichtenstelle für den Orient" التابع لمكتب وزارة الخارجية الألمانية والذي كان هدفه نشر الفوضى والتحريض على الانقلاب ضد البريطانيين ومستعمراتهم تحت إشراف المستشرق والأركيولوجي الداهية ماكس فون أوبنهايم، ولكونه صاحب خبرة ممتازة وطويلة في العالم الإسلامي، وله باع طويل في تاريخ المنطقة -كان قد اكتشف في العام 1911 بقايا مدينة تل حلف في شمال سورية- قدم أوبنهايم أدهى نصائحه لوزارة الخارجية، إذ أدت دراساته الأنثروبولوجية إلى الوصول إلى استنتاجات عدة في فهم علاقة الدين بالسياسة والمجتمع، وكيف يمكن لأي موضوع ثقافي أو اجتماعي بسيط وبمجرد تغليفه بالغلاف الديني أن يكون لديه تأثير كبير بين الشعوب الناطقة بـ"الشهادتين".
جهاد إسلامي بنكهة ألمانية
شدد أوبنهايم على ضرورة أن تدفع ألمانيا حليفتها السلطنة إلى أن تعلن الجهاد المقدس لتأجيج مشاعر المسلمين الدينية وتأليبهم ضد فرنسا وبريطانيا وروسيا، اعتبرت نصيحته النواة الأولى لاستغلال الإسلام وتوظيفه في خدمة السياسة واستغلال فكر الجهاد كأيديولوجيا سياسية.
صبيحة الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1914 وقف شيخ الإسلام مصطفى خيري أفندي في إسطنبول معلناً الجهاد الإسلامي ضد أعداء الأمة، روسيا وفرنسا وبريطانيا، فقد نفّذت السلطنة ما طلب منها على أكمل وجه.
آمن أوبنهايم بتأثير الحملات الدعائية في تعبئة الشعوب الإسلامية ضد بريطانيا وفرنسا، فبدأ بترويج الشائعات عن اعتناق القيصر وليام الثاني للإسلام، وبأن فرنسا تخطط لنبش قبر الرسول (ص) وهدم الكعبة ونقل "الحجر الأسود" إلى متحف اللوفر. واستكمالاً للمشروع الجهادي الألماني، بُني في العام 1915 في ضاحية فونسدورف - زوسن برلين، مسجد تابع لمعسكر اعتقال أطلق عليه معسكر نصف القمر "Halbmondlager" في دلالة واضحة على شعار الإسلام "الهلال" يشبه إلى حد كبير قبة الصخرة في القدس..
وسرت شائعات مغرضة بأن هذا المسجد تم بناؤه من مال القيصر وليام الثاني الخاص، كي يصلي فيه الأسرى المسلمون الذين عوملوا باستحسان واهتمام كبيرين لتشجيعهم على القتال إلى جانبهم. وتولى الشيخ التونسي صالح الشريف مسؤولية النشاط الدعوي الإسلامي، ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل تم إصدار صحيفة ألمانية ناطقة باللغة العربية بعنوان جذاب هو "الجهاد".
لم يكن الألمان الوحيدين الذين عملوا على بث الدعايات بل ساهم بعض علماء المسلمين أيضاً بنشر أحاديث تشير إلى أن هناك ملكاً قوياً سوف يدخل الإسلام وينتصر للمسلمين، فهو بالظاهر مسيحي لكن في الباطن لديه رغبة جامحة في إدخال الإسلام إلى قلب شعبه في الوقت المناسب فاعتُبر وليام الثاني هبة الله ومخلص الشعوب الإسلامية.
استخدمت ألمانيا الجهاد الإسلامي بطرق عدة ونشرتها في جميع الأمم الإسلامية يعاونها عليها مجموعة من الجواسيس والعسكريين، كان أهمها بعثة نيديرماير - هنتيغ الدبلوماسية إلى كل من بلاد فارس وأفغانستان والهند بين عامي 1915 - 1916 والتي قادها ضباط ألمان وأتراك وأمراء هنود محليون، هدفت لتأجيج نفوس الشعوب الفارسية والأفغانية وتشجيعهم على إثارة انتفاضة شعبية ضد الإنكليز وطردهم من شبه الجزيرة الهندية..
وقاد الحملة في بلاد فارس فيلهلم فاسموس الذي لقب "بلورنس بلاد الفرس" في إشارة إلى "لورنس العرب" الإنكليزي، يعاونه على مقاومة الاحتلال البريطاني لبلاد فارس متمرد شيعي يدعى رئيسي علي دلفاري.
برغم كل هذا المجهود الفكري الاستشراقي والدعوي ومع جميع القلاقل والاضطرابات التي أحدثها النشاط الجهادي الألماني، إلا أنها فشلت بجميع أشكالها، وانتصر في نهاية المطاف المشروع الإنكليزي الذي كان عرابه "لورنس العرب". ويُعتقد بأن سبب فشل الحملة كان في مراهنة ألمانيا على الحماسة الدينية لدى المُسلمين أكثر منه على وعودهم لهم بالاستقلال. وهذا ما أثبتت بريطانيا براعة فيه، فأغدقت المال والوعود بالاستقلال والحرية على الأمراء العرب للتخلص من الهيمنة العثمانية من دون صرف جل انتباهها إلى العامل الديني الذي لم يكن لديه تأثير كبير بين العرب آنذاك مثل العامل القومي ونزعة التحرر.
فككت الحرب الكونية الأولى التحالف الألماني/ العثماني بل أدت إلى انهيار الإمبراطورية الألمانية بالكامل. أما السلطنة العثمانية فقد أصيبت "بكارثة" إلغاء الخلافة التاريخية للإسلام ودخلت البلاد مرحلة جديدة عنوانها كمال أتاتورك والعلمانية..
أما الجهاد الإسلامي فلم يأفل نجمه بل انتقل إلى رقعة جديدة ومسرح أحداث جديد وإدارة جديدة كانت هذه المرة أميركية بحيث ظهر واضحاً "إسلامية" مصطلاحات مستشار الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجينسكي عندما خطب في جموع المجاهدين الأفغان المحتشدة على حدود باكستان - أفغانستان وأكد لهم أن الله إلى جانبهم في حربهم ضد الغازي السوفياتي وأدواته الداخلية ووعدهم بأن أرض الجهاد ملك لهم بجوامعها وأراضيها وسوف يعودون إلى الصلاة فيها كما في السابق.
فشل في التوقيت
يمكن القول إن فشل "الجهاد الألماني" في السلطنة العثمانية والبلاد الإسلامية له علاقة أساسية في التوقيت، فالألمان لم يشجعوا العرب التواقين للحرية على الاستقلال، عكس ما فعله الإنكليز في التشديد على فكرة التحرر من الاحتلال العثماني الجاثم على صدور العرب منذ أربعة قرون، بينما نجحت الإدارة الأميركية في حرب أفغانستان وصعود التيارات الإسلامية في استغلال عامل الوقت وتوجيه أكبر خسارة عسكرية للسوفييت منذ الحرب العالمية الثانية.
لم يكن العالم الإسلامي متحمساً للدين بقدر حماسته للقوميات في السابق، في حين أن "الجهاد الإسلاموي" يعتبر اليوم بكل أشكاله عابرا للقوميات وحدود الدول محاولاً محوها، هذا الجهاد الذي كان مطلوباً يوماً ما أصبح اليوم يشكّل عبئاً ويحمل صفة الإرهاب وعدو الإنسانية وحالة شاذة عن الدين نفسه.