جيل ما بعد أوسلو يمارس حق النقض

18 أكتوبر 2015
(تصوير: عصام ريماوي)
+ الخط -

لا يوجد حل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وقد بات العمل فيه مغلقاً حتى إشعار آخر. وتلاشت كل إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة أو حتى دولة غير مستقلة. كان ذلك موقفا نظريا وعمليا رسميا وشعبيا إسرائيليا بامتياز، أو كان قواعد جديدة للعبة السياسية الإسرائيلية التي سرعان ما تحولت إلى مواقف دولية في أعلى المستويات.

حدث ذلك عندما دفع الملف الفلسطيني إلى هامش الأجندة الدولية والإقليمية والعربية. كما تشهد على ذلك كلمات الزعماء في اجتماع الجمعية العامة في أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي التي خلت من إشارات واهتمامات معتادة حول الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. ولم يُقِم النظام الدولي أي اعتبار ولا احترام للمناشدات الرسمية الفلسطينية بالتدخل وبالضغط على دولة الاحتلال، ولا لطلب الحماية الدولية.

إن موقف "لا يوجد حل للصراع" يعني إمعانا في التطهير العرقي داخل مدينة القدس وضواحيها وفي الأغوار ومناطق الضفة المصنفة (ج)، ويعني استكمال تحويل المدن والقرى الفلسطينية إلى بانتوستونات فصل عنصري وفصلها عن بعضها بعضاً وفصل الضفة عن القطاع، ويعني استمرار نقل المستوطنين وبناء المستوطنات، ويعني تهديداً وجودياً للمقدسيين وتهديد حق تقرير المصير لشعب بكامله. ويحدث ذلك كله في ظل صمت دولي وعربي قل حدوثه.

ما حدث مستوى من الانفجار قابل للانتشار والاتساع، وبمعنى آخر استخدم جيل جديد من الشبان والشابات حق النقض "الفيتو" على عملية القهر والخنق واستباحة كل أنواع الحقوق.

جاء الانفجار امتداداً لأشكال من الاحتجاجات والمقاومة، ورداً على التحويلات المتدحرجة في القدس والضفة باتجاه حسم السيطرة الكولونيالية الإسرائيلية.

سياسياً، اعترض جيل ما بعد أوسلو على مسار سياسي أفضى إلى تعميق الاحتلال والاستيطان وعلاقات التبعية وصولا إلى الأبارتهايد، وطرح موضوعياً مهمة الخروج من حالة التعايش مع الكولونيالية والانتقال الى مسار التحرر الوطني.

صحيح أن الجيل الجديد الذي تصدر المشهد لا يملك القدرة السياسية على قول ذلك بوضوح، لكنه قال ذلك بنضاله وتمرده واحتجاجه المتواصل. وكان على القوى السياسية أن تقرأ ما يجري وتطرح مهمات برنامجية للخروج المنظم من مسار أوسلو وإعادة بناء مسار التحرر الوطني. كان المطلوب تقديم رؤية وطنية (هدف مركزي هو الخلاص من الاحتلال وأهداف صغيرة قابلة للتحقيق ومهمات لكل أبناء الشعب الواحد وأشكال النضال القادرة على مراكمة المكاسب).

غير أن المهمة الأكثر احتياجا في مثل هذه اللحظة التاريخية هي من دون شك توظيف الحركة السياسية للاندفاع الشبابي الثوري وانفجاراته التلقائية المدهشة ووضعه في خدمة برنامج التحرر من الاحتلال. والانتقال من الاندفاع الثوري التلقائي وتضحياته وخسائره الجسيمة إلى عمل نضالي منظم طويل النفس قادر على معاظمة الإنجاز والمكاسب.

للأسف لم تقم القوى السياسية بهذه المهمة المفصلية، بل ركبت موجة العفوية في الضفة الغربية وأيدت كل أعمالها. أعادت طرح المواجهة مع مواقع التماس مع جيش الاحتلال في الضفة وحدود قطاع غزة. والمواجهة كانت سابقا وظلت راهنا خسارة واستنزافا للشبان والأطفال والشابات. والمواجهة طقس يبادر إليه الشبان في كل المناسبات لإبداء رفضهم الاحتلال والتنسيق الأمني معه. ولا ترتبط بأهداف ومهمات وبرنامج.

وفي لجة المواجهة تورطت القوى السياسية مرة أخرى في تأييد دخول الأطفال في الصدام مع قوات الاحتلال التي تستخدم الرصاص، أو أنها لم تفعل شيئا لإبعادهم عن مواقع الخطر، وقد استشهد وأصيب العديد من الأطفال من جراء ذلك. غير أن نقطة الضعف القاتلة عند القوى السياسية هي خلو "جعبها" من الأهداف والمهمات الوطنية، وافتقادها لزمام المبادرة السياسية طوال الوقت.

وتتقاطع مواقف القوى السياسية مع مواقف السلطة والمنظمة في استجداء التدخل الدولي، والاستمرار في تقديم الشكاوى من موقع المسار الذي كشف عن انحياز النظام الدولي بقيادته الأميركية للرؤية الكولونيالية الإسرائيلية. ولا يفعلان شيئا ضد المحاولة الإسرائيلية لتحويل الأنظار إلى "الإرهاب" و"حرب السكاكين" الموجهة ضد "المدنيين الإسرائيليين"، وتحميل الجهات الفلسطينية مسؤولية التحريض على الكراهية، وإغفال ما تقوم به دولة الاحتلال من تطهير عرقي ومن إضافة مستوطنين إلى الأراضي المحتلة ومن ممارسة العنصرية.

في غياب الرؤية والمبادرة السياسيتين، لا تجد حكومة نتنياهو ما تقدمه غير وقف التقسيم الزماني للمسجد الأقصى إلى أن تنتهي الاندفاعة الشبابية، وتخفيف اندفاعة الاستيطان، وضبط اندفاعة الأصولية اليهودية، مقابل استمرار مسار أوسلو كغطاء.

ثمة مناعة سياسية هشة للحركة السياسية والسلطة والمنظمة، مقابل مناعة وطنية شبابية مدهشة في قوتها وتماسكها. تناقض لا يعقل بقاؤه من دون حل. ويجوز الاعتقاد بأن نار المنتفضين الجدد قادرة على إنضاج الحل.

وثمة أسئلة كثيرة قد تتحول إلى مهمات. سؤال استقلال القرار السياسي، وسؤال إفشال التطهير العرقي في القدس، وسؤال وقف الاندفاعة الاستيطانية ودفعها نحو التقهقر في الضفة، وسؤال عزل العنصرية المنفلتة من عقالها في مناطق 48، وسؤال الخروج من إسار علاقات التبعية الاقتصادية المهينة، وسؤال إعادة بناء البيت الفلسطيني والوطن المعنوي للشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده وبخاصة إعادة الاعتبار لمخيمات الشتات، وسؤال النضال المستمر والمنظم والمتصاعد كشكل جديد للانتفاضة.

وبموازاة ذلك ثمة جرعات ثقة جديدة قدمها جيل ما بعد أوسلو باندفاعته الثورية "لنصير يوما ما نريد".


(كاتب فلسطيني/ رام الله)


اقرأ أيضاً: تفكيك السياسة الرسمية الفلسطينية

المساهمون