يمكن اعتبار اشتغال الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، إضافة إلى عمل الأميركي هاري أوستين يولفسون، أهم مكوّنات الفهم المعاصر للفيلسوف الهولندي باروخ سبيوزا (1632 - 1677).
ويمثّل كتاب "سبينوزا.. فلسفة عملية"، العمل الأكثر اقتراباً من الفهم العام ضمن موجة أعمال عرفتها الساحة الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين بالعودة إلى كلاسيكيات الفلسفة وتحيين خطابها.
صدر الكتاب مؤخّراً باللغة العربية عن "دار توبقال" في الرباط، بترجمة الباحث المغربي عادل حدجامي. هكذا، يلتحق العمل في المكتبة العربية بكتاب آخر للمؤلّف نفسه، هو "سبينوزا ومشكلة التعبير" (ترجمة أنطون حمصي، 2004).
ينطلق دلوز في عرض فكر سبينوزا من حياة الأخير، مقدّماً قراءة فلسفية نقدية، ومعيداً النظر في مرجعها الرئيسي، وهو كتاب معاصر سبينوزا، جان كوليروس، عن سيرة الفيلسوف الهولندي. كما يحاول استكمال فراغاتها من خلال رسائل الأخير، وتأويلات معاصريه ضمن السجالات التي خاضها، وواجه في سبيلها الإقصاء الاجتماعي والديني، إذ اعتُبر أن أطروحاته تدمّر أدوات السيطرة الفكرية المستعملة في عصره.
في فصل مستقل بعنوان "تطوّر سبينوزا"، يحلّل دولوز المراحل التي مرّ بها فكر صاحب "علم الأخلاق"، حيث يقسّمه إلى ثلاث مراحل: الفكر الطبيعي، ثم الديكارتية، ثم مذهب وحدة الوجود.
وجهة النظر الرئيسية التي يقدّمها دولوز هي أن سبينوزا فهم أن الفلسفة ينبغي لها أن تقدّم محاولات راديكالية في إعادة فهم العالم. أراد سبينوزا أن يرى العالم بنظرة أنطولوجية خاصة به: يوجد جوهر واحد في الكون، وكل ما يوجد ليس سوى صفات له. ومن هنا، فالكائنات ليست سوى طرق ظهور مختلفة لهذا الجوهر.
جعل دولوز من كتابه ما يشبه قاموساً للمفاهيم السبينوزية (الجوهر، الخلود، الصفات، الحقيقة وغيرها)، وهو ما يتماشى مع نظريته في تعريف الفلسفة بأنها "علم صناعة المفاهيم". يؤكّد المؤلف أنه ينبغي قبل كل شيء تصنيف سبينوزا، فهو فيلسوف خصوصي، أي أنه لا ينتمي إلى الفضاء العام، وما يجري تداوله فيه من أفكار، وهذا التصوّر يساعد في فهم مقولة هيغل "كل فيلسوف يبدأ سبينوزيّاً".
بالنسبة إلى سبينوزا، الحياة ليست فكرة، وليست قضية تنظير، إنها طريقة عيش، إنها أسلوب خالد لجميع الصفات. هذه الفكرة، ستقوده إلى اقتراح نموذج جديد للفكر الفلسفي، وهو الجسد، ويبدأ بعد ذلك في إدانة كل ما يفصلنا عن الحياة، أي كل تلك القيم المتعالية التي وُجّهت ضد الحياة. يصل سبينوزا إلى أن الحياة باتت مسمّمة بالتصنيفات: خير وشر، أو جميل وقبيح، وغيرها. وهذه التصنيفات هي بذور الحقد، ومن ضمنه الحقد تجاه الذات.
في آخر فصول الكتاب، "سبينوزا ونحن"، يضع المؤلف مجموع هذه العناصر من فكر سبينوزا ليثبت قابليتها للتوظيف الفكري المعاصر، خصوصاً في فهم الحداثة وما بعدها. بالنسبة إلى دولوز، سبينوزا أداة عملية لفهم العالم.
اقرأ أيضاً: عصر مفرط في نيتشويته