بعد نصف قرن على رحيله، يقف صاحب "الرجل الذي يمشي" على الحدود بين بلدين، متردّداً في وجهته؛ هل يُكمل المسير شرقاً إلى سويسرا التي وُلد ورحل فيها، أم ييمّم شطر فرنسا، حيثُ قضى سنواتٍ من حياته وترك قرابة خمسة آلاف عمل.
بالنسبة إلى ألبرتو جياكوميتي (1901 - 1966)، فإن مسألة انتمائه قد حُسمت وانتهى الأمر: هو سويسري أوّلاً، وفرنسي ثانياً. لكن الأمر لا ينطبق على تركته الفنية الموزّعة بين البلدين، والتي يشكّل جزءٌ منها لبّ صراع قانوني بينهما.
يتعلّق الأمر بمجموعة تضمّ ست عشرة مسودّة عمل فني، وأكثر من مائة صورة لـ جياكوميتي تعود إلى الفترة بين العشرينيات والستينيات من القرن الماضي، التقطها له مصوّرون بارزون؛ أمثال: مان راي وهنري كارتييه بريسون وروبير دوانو.
ويبدو أن جياكوميتي احتفظ بالمجموعة حتى رحيله في مدينة شور السويسرية، ومن ثمّ تناقلها أفراد من عائلته، إلى أن انتهت بين يدي أحد المهتمّين بسوق الأعمال الفنية، وهو شخصٌ ظلّ حتى نهاية التسعينيات مجهول الهوية.
لا تُعلم، تحديداً، طبيعة المسارات التي اتّخذتها المجموعة، لكنها عادت إلى الظهور عام 2009، حين تناهى إلى "متحف غريونز" في شور علمٌ بوجودها، فكلّف رجل أعمال يُدعى ريموس توفل بشرائها بمبلغ يقارب المليون دولار.
وبالفعل، اشترى توفل المجموعة وأقرضها للمتحف لمدّة خمسة عشر يوماً. لكن، مع أوّل عرض لها في 2011، حرّكت "مؤسّسة ألبرتو وآنيت جياكومي"، ومقرّها في باريس، دعوىً قضائية طالبت فيها باسترداد تلك الأعمال، بزعم أنها تعرّضت إلى السرقة "منذ عشرات السنين". فما كان من القضاء السويسري إلّا أن أمر بمصادرة المجموعة، التي ترقد منذ 2014 داخل علب تخزين مغلقة في أحد المتاحف السويسرية، في انتظار حكم المحكمة الفرنسية التي قُدّمت فيها الدعوى.
قبل شهرين، رفضت محكمة الاستئناف في سويسرا طلباً للسماح للجمهور بالاطلاع على المجموعة من خلال عرضها في المتحف، بينما تستمرُّ أطوار القضية، مؤكّدة أن تلك الأعمال لن تُعرض إلّا بعد صدور حكم نهائي يبتّ في ملكيتها.
تفرض المؤسّسة طوقاً من التعتيم على القضية، رافضة الحديث عن تفاصيلها، أو تحديد هوية من تتّهمهم بالسرقة، حتّى أن القضاء السويسري علّق على المحاكمة بالقول إن السلطات الفرنسية تتابع أشخاصاً غير معروفين". غير أن مسؤولين فيها، وعدوا، في تصريحات إعلامية، بأنهم سيتحدّثون عن كلّ ذلك، بشكل علني، بمجرّد حسم الصراع على ملكية تلك الأعمال، والذي دار بعيداً عن أقلام الصحافيين وكاميراتهم.
أيّاً كان، فإن القضية تُعيد إلى الواجهة تلك المسارات التي تتّخذها بعض الأعمال الفنية، وهي مسارات ليست طبيعيةً في كلّ الأحوال، فكثيرٌ منها يصبح مادّة لصراعات تتّخذ بعداً قانونياً في أغلب الأحيان. ولا شكّ أن تلك الصراعات تزداد ضراوة حين يتعلّق الأمر بأعمال فنّان بارز تدرّ تركته ثروة، وهو الذي بيع عمله "الرجل الذي يمشي" بأكثر من 140 مليون دولار، ليكون بذلك المنحوتة الأعلى سعراً إلى الآن.