جمهورية التلصّص

19 ديسمبر 2015
+ الخط -
ظن الجميع في مصر بعد ثورة 25 يناير أن الحرية فعل كل مصري ما يحلو له في أي وقت، مُعتدياً في ذلك على حريات الآخرين ومشوهاً لهم، بل ومُهدداً لهم في حياتهم الشخصية، مُستنداً في ذلك على مقولة خائبة "إننا نحيا في أزهى عصور الحرية"، فيما الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أننا نحيا في أزهى عصور الانحطاط العبثي، والاعتداء على حريات الآخرين، ومخالفات قانونية ودستورية بالجملة، تتغاضى عنها الدولة المصرية وتتركها؛ ربما لأنها قد تُفيدها في تصفية بعض خصومها من رجال الأعمال والفنانين والسياسيين.
يقول دستور الدولة المصرية في باب الحريات في المادة 57: "للحياة الخاصة حُرمة، وهى مصونة لا تُمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسرّيتها مكفولة، ولا تجوز مُصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مُسبب، ولمدة محددة، وفى الأحوال التي يُبيّنها القانون". وتحفظ هذه المادة كرامة جميع البشر في أي مكان، ومعمول بها في دول العالم، بل هي من البديهيات التي لا يمكن أن يختلف عليها جميع البشر؛ فلكل إنسان حياته الشخصية التي فيها أمور كثيرة لا يحب أن يعلم عنها غيره، بل ويمارس ممارسات تخصه ما دامت لا تضر غيره، وليس من حق أي كائن أن يطلع على أمور غيره الشخصية؛ لأن مجرد الاطلاع عليها، أو حتى إفشائها، من قبيل الجريمة القانونية التي تُهدد حياة الآخرين الخاصة، بل وتعمل على التشهير بهم وفضحهم؛ ما يترتب عليه عدم القدرة على الحياة بشكل آمن ومستقر. لكن الواقع المصري اليوم لا يعبّر إلا عن حالة من الانحطاط التي لا يمكن التعبير عنها بسهولة؛ لعجز اللغة عن وصف هذه الحالة المقزّزة التي نحيا في ظلها.
حدث قبل سنوات، في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، أن رجال الأمن حينما رغبوا أن يفضحوا رجل الأعمال، حسام أبو الفتوح، سرّبوا صوراً ومقاطع فيديو له مع زوجته في حينه، الراقصة دينا، ومع أخريات، بل واتهموه في قضايا عديدة، منها حيازة سلاح وخمور وغيرها من القضايا التافهة؛ لمجرد إرغام الرجل على الخروج من المشهد الاجتماعي والسياسي تماماً. وقد تم لهم ما رغبوا فيه، من خلال أسلوبهم اللزج والمقزز المعتمد على انتهاك الحياة الشخصية للآخرين، والزج بهم في أتون الفضائح الاجتماعية التي يحلو للمجتمعات التافهة والجاهلة لوكها ليل نهار؛ نتيجة فراغ يعيشون فيه، ويجعلهم منشغلين بأفعال غيرهم من الناس.
لكن، هل من الممكن إلقاء اللوم على رجال الأمن المصري فيما ذهبوا إليه من فضائح ومخالفة للقانون الذي يؤكد أن لكل مواطن الحق في الحياة، من دون الاعتداء على حياته الشخصية؟
الحقيقة أن اللوم بالكامل لا يقع على الأمن الذي فعل ذلك، بل على رئيس الجمهورية الذي يسمح باتباع أساليب قذرة ورخيصة، من أجل فضح الآخرين، وسكوته على هذه المخالفات الخطيرة وعدم الاهتمام بمعاقبة من ينتهك حياة الناس الشخصية، وبالتالي، يكون شريكاً ضمنياً في هذه الجريمة التي انتهكت الدستور نفسه.
للأسف، تتبع الدولة المصرية اليوم الأسلوب الرخيص والمقزز واللزج نفسه الذي كان يتبعه
نظام مبارك، فتنتهك أجهزتها حريات الآخرين، ويتجسسون عليهم بشكل لا يمكن قبوله، ويفضحونهم اجتماعيا، ولعل أي دولة تتم فيها مثل هذه الممارسات المخزية لا يمكن لها احترام آدمية المواطن أو كرامته، بل هي دولة لا يمكن للزوج فيها الشعور بحريته مع زوجته، لإحساسه الدائم بأن الدولة تتلصّص عليه، وقد تفضحه في أي وقت، ولا يمكن له الحديث مع الآخرين، أو إرسال أي لون من المراسلات الشخصية، وهنا يتحول المواطن إلى كائن غير قادر على فعل شيء، بعدما بات لديه إحساس دفين بأنه مُراقب دائماً، مُعرّض للفضيحة في الوقت الذي لا يعلمه.
إنهم يعلموننا كيف نُكمّم أفواهنا بأيدينا، وكيف نتجسس على بعضنا، وكيف يسقط احترامنا حقوق الآخرين، بل واحترامنا أنفسنا من أذهاننا، وبالتالي، نكون جميعنا مجرد أداة في يد السلطة التي تحركنا كيفما شاءت، وبرغبتها هي، بينما تحولنا نحن إلى مجرد شيء تتصرف فيه السلطة كيفما ترغب.
لا يمكن للدولة التي تُنتهك فيها حريات الناس الشخصية احترام كرامة مواطنيها، وبالتالي، لم يعد من حقنا الاعتراض على ما تمارسه السلطة مع المواطنين من استعباد؛ فهم يستعبدوننا بطرق شتى، من أهمها كيفية التجسس علينا من أجل فضحنا.
الدولة التي فيها قانون لا تسمح للإعلامي أحمد موسى أن يعرض على فضائية "صدى البلد" صوراً شخصية أريد منها النيْل من المخرج خالد يوسف، من أجل فضحه اجتماعيا وتصفيته سياسيا، ولو لم يعرف موسى أن لديه ضوءاً أخضر لعرض هذه الصور التي تُعد مخالفة فادحة للقانون، لما أقدم على فعل ذلك، فهو بمجرد عرضه هذه الصور يقع تحت طائلة القانون، ويُخالف الدستور المصري. ولكن، لأنه مطمئن تماماً أنه لن يتعرّض له أحد بأي سوء تجرأ على ما قام به، وغداً سوف يقترف ما هو أفدح منه، كما فعلت قبله ريهام سعيد بتشهيرها بفتاة.
نحيا في مصر في اللادولة التي لا يمكن لها احترام القانون، أو الدستور، وبالتالي، تحول إعلامها إلى مسخرةٍ، قد ترى فيه أي شيء، وكل شيء، ولن يلومهم أحد نتيجة تحولنا إلى مجتمع فوضوي، لا يعنيه سوى لوك الحكايات والفضائح والتعرض للآخرين، بينما هم تناسوا مادة أخرى أكثر أهمية في الدستور (مادة 58)، تنص على أن "للمنازل حرمة، وفيما عدا حالات الخطر، أو الاستغاثة، لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائي مسبب، يحدد المكان، والتوقيت، والغرض منه، وذلك كله في الأحوال المبيّنة في القانون، وبالكيفية التي ينص عليها، ويجب تنبيه من في المنازل عند دخولها أو تفتيشها، وإطلاعهم على الأمر الصادر في هذا الشأن"، وهي المادة التي لا تحترمها الدولة بكل أجهزتها، وتخالفها دائما.
هنا يجوز القول: حينما تكون هناك دولة حقيقية لها قوام قانوني، دعنا نتحدث عن الحريات الشخصية، ولنظل اليوم نهنأ بما نحيا فيه من ضحالة.

6989411D-08B6-42EF-A196-10718E8B88B1
محمود الغيطاني

كاتب وإعلامي مصري