قبل قرن ونصف تقريباً، أي في العام 1867 تحديداً، حين وضع رجل الدولة خير الدين التونسي (1820- 1890) كتابه "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، كانت تونس، شأنها في ذلك شأن عدة أقطار عربية، بدأت تتهيأ لقبول مفاهيم التحديث والإصلاح. كان هناك شبه إجماع على أن المسلمين ضعفاء، وأن الطريق إلى عودة القوة إليهم هو طريق الأخذ بالتقانة والعلم اللذين أعطيا الغرب قوّته وتفوّقه.
المحيّر، أنه بعد قرن ونصف تقريباً مرّ على ظهور هذا الوعي، نجد الانتقادات والملحوظات التي وجّهها "التونسي" وأمثاله من دعاة النهضة لا تزال سارية المفعول حتى اليوم. ولعل مبادرته إلى الإشارة إلى "الدنيا بوصفها بلدة متحدة تسكنها أمم متعددة"، وهي التي ترجمت إلى مقولة "العالم قرية واحدة" المنسوبة إلى الكاتب الأميركي آلفن توفلر (1928)، لا تزال هي الأكثر تأثيراً، وربما إثارة للحسرة، في هذه الثقافة التي يتحوّل فيها "الفكر" إلى مجرد بذور جافة لا تجد سياقاً تنمو فيه.
هل كان فكر النهضة لحناً بلا سياق، ولفظة سقطت خارج جملتها، وتغريداً خارج ضجيج عصرها؟ وهل المستشرق الألماني هاينرش فان مولتسن (1826- 1874) هو الوحيد من التقط إشارات "التونسي" فكتب عن كتابه "أنه أهم ما ألف في الشرق في عصرنا هذا"؟
إن مراجعة أدبيات "النهضة" المنشورة في ضوء ما يكتب في هذه الأيام من أصداء تحوم حول الموضوعات نفسها، يشعرنا بأن حركة المجتمعات العربية أتمّت دائرة ما وعادت إلى تلك النقطة، فكانت حصيلة دورتها صفراً، أو أنها كانت تدور في نقطة الصفر وهي لا تدري.
لم يتخل "التونسي" في كتابه عن السجع والمحسنات البلاغية الأخرى في صياغة عباراته، أي أن هذه الصياغة لم تكن محدثة بما فيه الكفاية، ولكن.. هل تجاوزت العبارات العربية الحديثة، التي تخلّت عن السجع وأكثرت من المعرّب والدخيل، تلك العبارات التقليدية المسجوعة؟ نعتقد أن عبارات "التونسي"، على ما فيها من تركيب تقليدي كانت أكثر صفاءً وبصيرة من الجملة العربية المعاصرة.