جمع "خرائب مستقبلية"

23 يناير 2019
(من المعرض)
+ الخط -

يُقام حالياً في "قصر فورتيني" في ساحة سان ماركو، في مدينة البندقية (فينيسيا) الإيطالية، معرضٌ عجيب في فكرته ومعروضاته، عنوانه FUTURUINS، لنا أن نترجمه بـ"خرائب مستقبلية"، أو خرائب من أجل المستقبل، إذا أخذنا في اعتبارنا الفكرة الأساسية التي دارت في أذهان منظميه وهي عرض المعاني المتعددة التي توحي بها الأماكن الخربة، وأهمها فكرة أن هذه الشظايا المتبقية من سالف الأيام يمكن أن تكون "أحجار أساس" في بناء صروح المستقبل.

يقدم هذا المعرض الذي افتتح في أواخر الشهر الماضي، ويستمر حتى الرابع والعشرين من آذار/ مارس المقبل، أكثر من 250 عملاً فنياً هي حصيلة ما جمعته "مؤسسة متاحف فينسيا" واستعارته، من متحف الإرميتاج في سان بطرسبرغ الروسية، حسب اتفاقيات موقعة في السنوات الأخيرة، ومن مجموعة متاحف الفاتيكان الأهلية، ومجموعات إيطالية أخرى، خاصة وعامة، ومشاركة الكثير من الفنانين المعاصرين عرضوا تركيبات فنية تستجيب لموضوعة المعرض الرئيسية.

ويمكن اعتبار هذا العرض استنطاقاً لموضوعة الخرائب، تلك الأشياء التي يُنظر إليها على أنها أشياء "معلّقة" بين الحاضر والماضي، بين الحياة والموت، بين الخلق والدمار، بوصفها حكايات رمزية تشهد على مرور الزمن.

ويرى نقّاد أن هذه الموضوعة ليست غريبة عن الحضارات الغربية، فقد لعبت القيم الجمالية التي توحي بها الخرائب دوراً بالغ الأهمية في هذه الحضارات، لأنها ترمز إلى سلطة الماضي، وتحتوي في الوقت نفسه على سلطة الشظايا والبقايا المتخلّفة التي يمكن، بسبب مضمونها الثقافي والرمزي، أن تصبح "أحجار أساس" يبنى فوقها المستقبل. هذه الشظايا التي تجيء من الأزمنة القديمة وقد علاها الصدأ بفعل الزمن، تمنح الحاضر ثروة من المعاني، وتوفر وعياً بمشروعات المستقبل.

الهدف من هذا المعرض تقديم الوجوه والمعاني المتعددة التي تنسب إلى الخرائب، أو نسبت إليها عبر القرون الماضية. وشملت هذه بقايا منحوتات وعمائر الحضارات اليونانية والرومانية والمصرية القديمة والآشورية والبابلية والسورية، وصولاً إلى أعمال الفن المعاصر الذي ينظر إلى الخرائب بطريقة مختلفة وهو يمعن النظر في خرائب المجتمع المعاصر المادية والمعنوية، ومثالها الذي تتكرّر الإشارة إليه في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، شعراً ورواية وفلسفة ونقداً؛ هو افتقاد المدن لإنسانيتها، وللعلاقات الإنسانية ضمناً. مثال ذلك تصوير فيلم يُعرض للمصوّر يوديتشي فرانشسكو لظاهرة ألعاب الفيديو التي تستولي على الشبان اليابانيين المنعزلين في بيوتهم، الظاهرة المسماة "شيكي كوموري"، للقول إن الخرائب ليست هي بقايا العمائر الأثرية فقط.

تتصدّر هذا المعرض، ووفق خط سير معاصر، تركيبات ذات طابع يتعلّق بالبيئة للفنانين آن وباترك بوريه، تتبعها أعمال أخرى لفنانين معاصرين من أمثال آكونشي فيتو وألبرتو بورّي ولورنس كارول وجورجو دي كيريكو.

وبين طرفي الزمن المتباعدين، الماضي السحيق والحاضر الراهن، يقدّم المعرض سلسلة أعمال فنية شهيرة تعدّ من روائع الفن تراوح بين لوحات وتماثيل ونقوش كتابية وفنون تطبيقية، والكثير منها مصدرها مجموعات حاضرة الفاتيكان أو متاحف ومجموعات خاصة، وتبرز بينها ما تمّت استعارته من مجموعات تحتفظ بها مدينة البندقية، مثل "رؤوس ميدوزا" للفنانين أرتورو مارتيني وفرانز فون ستك، و"الخرائب ليلاً" لـ أبوليتو كافّي المزخرفة بصور من مشاهد التكوين والموت. كما يضم المعرض 80 عملاً فنياً مصدرها متحف الإرميتاج، تميزت بينها أعمال الفنان آلبرخت دورر وجيوفاني باولو بانيني وفرانشسكو باسانو.

وأخيراً، جاء في تعليق لأحد الكتّاب على هامش المعرض، أن الحاجة إلى التفكير بمفاهيم تستحضرها الخرائب بينة وظاهرة في ضوء التاريخ المعاصر، ليس فقط في مشهد خرائب المعمار والمدن والضواحي، بل وأيضاً في خرائب البشر والأفكار بمرور الزمن، وبسبب الإهمال والتدهور والمآسي الطبيعية والسياسية، وما تتسبّب به الحروب والإرهاب. والأمثلة التي أصبحت رموزاً، مثل انهيار البرجين في نيويورك، وتخريب متحف بغداد، وتدمير آثار تدمر، لا تزال معانيها بحاجة إلى المزيد من التأمل والتفكير.

المساهمون