جمال خاشقجي... السيناريوهات الدموية تحلّ مكان المعلومة

08 أكتوبر 2018
دخل "اختفاء" جمال خاشقجي يومه السابع (ميخائيل سعد)
+ الخط -
غابت المعلومة الموثقة حول مصير الكاتب والصحافي السعودي جمال خاشقجي، فحضرت الشائعات والأقاويل والتسريبات السوداوية حول اغتياله من قبل السلطات السعودية بعد تعذيبه في إسطنبول، وتحديداً في مقر قنصلية المملكة حيث دخل الرجل يوم الثلاثاء ولم يخرج، أو لم يعرف أنه خرج على الأقل، حياً أو ميتاً. هكذا، تكتمت السلطات التركية إزاء ما نسب إلى أجهزتها الأمنية حول فرضية تصفية خاشقجي، فلم تنفِ ولم تؤكد، ولم يخرج موقف رسمي معلوم الهوية حتى عصر أمس الأحد، قبل أن يكسر الرئيس رجب طيب أردوغان الصمت الرسمي، وليعيد الأمل بأن خاشقجي قد يكون على قيد الحياة. وقال أردوغان إن "اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي في تركيا أمر محزن للغاية"، مشيراً إلى أن حكومته "انتظار نتيجة التحقيق وستعلن النتائج إلى العالم مهما كانت". لكن الأهم في كلام أردوغان كان قوله "لا تزال لدينا توقعات إيجابية بشأن حالة خاشقجي، ويتم التحقيق في جميع التسجيلات وعمليات الخروج والدخول من المطارات التركية".

وقبل ذلك، لم تفعل التصريحات السعودية الرسمية التي تناقلتها وكالة الأنباء السعودية الحكومية، حول نفي فرضية قتله على يد 15 سعودياً أتوا بطائرتين خاصتين إلى إسطنبول بموازاة اختفاء الرجل يوم الثلاثاء الماضي، سوى زيادة الغموض ورفع منسوب الخوف على حياة الكاتب المعروف في صحيفة "واشنطن بوست" حالياً، ذلك أن كل السلوك السعودي، منذ الثلاثاء الماضي، زاد المخاوف، وخصوصاً لجهة أن الكاميرات في مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، حيث فُقد خاشقجي أو خُطف أو قُتل أو عُذب أو اعتقل، "لا تعمل" على حد زعم القنصل العام محمد العتيبي في تصريحات لوكالة "رويترز"، وهو كلام لم يفهمه الحريصون الكثر على معرفة مصير خاشقجي، إلا فجوراً و/أو خبثاً و/أو استخفافاً بعقول الرأي العام الذي لا يزال يصعب عليه تصديق أنه في عام 2018 يمكن أن يحصل ما يُقال إنه حصل مع خاشقجي، أي أن يخطف مواطن في مبنى قنصلية بلده في الخارج، مع أنه حضر إليه إرادياً لإتمام أوراق رسمية، فتلاقيه عصابة لها صفة حكومية لتخطفه أو لتعتقله أو لتقتله وربما تصور بالفيديو تعذيبه وتهشيم الجثة لإخفاء معالم الجريمة الموصوفة، هذا مجدداً إن صحت الأقاويل السوداوية التي نسبت إلى الأمن التركي، ولم يقم الأخير بنفيها ولا تأكيدها رسمياً، على الأقل حتى عصر أمس.

صمت يأمل كثيرون في كل أرجاء العالم ألا يكون علامة تأكيد ضمني لما هو متداول، علماً أن التسريبات حول مقتل الرجل، منسوبة إلى الأجهزة الأمنية التركية نفسها، من قبل وكالتي رويترز وفرانس برس تحديداً، في حين اكتفت وكالة الأناضول، التركية شبه الحكومية بنقل متواضع للأنباء إياها، في حين أغلق معظم المسؤولين الأتراك هواتفهم بحجة أن يومي السبت والأحد هما عطلة رسمية في تركيا، من دون أن يعرف السبب الرسمي لهذا الصمت التركي الذي استمر حتى أطلق أردوغان تصريحاته المقتضبة حول الموضوع، والذي لم يسبقه فيها سوى قلة من المسؤولين الأتراك مثل المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم، عمر جليك، يوم السبت، حين تعهد بنشر تفاصيل ما حصل مع خاشقجي، "قريباً"، والمتحدث الدائم في هذا الموضوع، صديق خاشقجي، ياسين أقطاي وهو نائب في البرلمان ومستشار لأردوغان في الآن نفسه، وقد أبلغ قناة "سي إن إن" تورك أمس الأحد، بأن "خاشقجي لم يغادر القنصلية السعودية بطريقة طبيعية"، وهو ما يحتمل تفسيرات عديدة للغاية، فإما أن عبارة "لم يغادر بطريقة طبيعية" توحي بأنه خرج جثة، أو خرج مخطوفاً مثلاً، وهو ما شاء أقطاي عدم إزالة اللبس من حوله، مكتفياً بالتعهد بأن "القضية لن تمر من دون حل". ثم انتقل أقطاي إلى وكالة "رويترز" وقال لها إنه يعتقد أن الصحافي السعودي "قتل في القنصلية"، مشيراً إلى أن "السلطات التركية تعتقد أن مجموعة من 15 سعودياً ضالعة بشكل واضح في قضية خاشقجي"، ووصف حديث المسؤولين السعوديين عن عدم وجود تسجيلات للكاميرات بأنه "غير صادق".

واختيار جليك وأقطاي، بصفتهما الحزبية، من دون اعتماد أنقرة مصدراً حكومياً، حتى عصر الأحد، للإفصاح عن المعلومات بشكل رسمي حول قضية الكاتب السعودي، بما أن أردوغان لم يفصح عن معلومات وفضّل انتظار التحقيقات التركية، هو بدوره مصدر حيرة، وفسره البعض على أنه ربما ينمّ عن حرج تركي كبير في التعاطي مع الموضوع، أكان لناحية خطف خاشقجي إلى خارج تركيا بعد دخوله مبنى القنصلية، أو بسبب نقص المعلومات عند الأجهزة التركية حول هوية السعوديين الـ15 الذين وصلوا بطائرتين خاصتين عشية زيارة خاشقجي إلى مبنى القنصلية، ومغادرتهم تركيا سريعاً إلى البلدان التي قدموا منها بعد "إتمام مهمتهم" هناك، دائماً بحسب ما قيل وما سُرب من قبل وكالتي "رويترز" و"فرانس برس" نقلاً عن "مصادر أمنية تركية" من دون أن يتبنى هذه الروايات شخص محدّد الهوية والمنصب. ولاحقاً، جزمت وكالة "الأناضول" بأن السعوديين الـ15 هم رجال أمن.



هكذا، بقي العالم، أو تحديداً الوسط الإعلامي والسياسي الذي تعرف إلى خاشقجي إعلامياً وسياسياً ومحاضراً ومستشاراً وكاتباً وسياسياً بالمعنى الواسع للعبارة، أسير تكتم رسمي، وطفرة في الروايات المتناقلة، والتي لم تخرج من دائرة قتل السلطات السعودية خاشقجي في إسطنبول، ونقل جثته إلى خارج المبنى الدبلوماسي. وطال انتظار الرأي العام العالمي لخطاب قيل أيضاً إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سيلقيه ليحدد موقفاً رسمياً مما حصل على الأراضي التركية مع خاشقجي المقيم في أميركا في ما يشبه المنفى الاختياري منذ العام الماضي، حيث يكتب في صحيفة "واشنطن بوست" التي تقود حملة الضغط في الولايات المتحدة للكشف عن مصير الرجل. ونفذت السلطات السعودية، ممثلة بالقنصل العام في إسطنبول، محمد العتيبي، مناورة إعلامية عندما دعا وكالة رويترز مساء السبت لإجراء "جولة" في مبنى القنصلية المؤلفة من 6 طبقات، هدفها المعلن إثبات أن خاشقجي ليس في مبنى القنصلية.


وكان دفق الأخبار قد بدأ مساء السبت، عندما قال من سمّته "فرانس برس"، "مصدراً مقرباً من الحكومة التركية" إن "الشرطة تعتقد في استنتاجاتها الأوّلية، أنّ الصحافي (خاشقجي) قُتل في القنصليّة على أيدي فريق أتى خصيصاً إلى إسطنبول وغادر في اليوم نفسه". وكانت مصادر الشرطة التركية قد أعلنت قبل ذلك بقليل لوكالة "الأناضول" أنّ فريقاً من السعوديين من 15 شخصاً "بينهم مسؤولون" وصل إلى إسطنبول على متن طائرتين يوم الثلاثاء الماضي، وغادر في اليوم نفسه بعدما توجّه إلى قنصليّة السعودية في إسطنبول عندما كان جمال خاشقجي موجودًا فيها، وأنّ الأخير لم يُغادر أبدًا الممثلية الدبلوماسية. لكن مصدراً مسؤولاً في القنصلية نفى التقارير عن قتل خاشقجي، مندداً بـ"اتهامات عارية عن الصحة"، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء السعودية أمس الأحد. وأفاد المصدر بأن "وفداً أمنياً مكوناً من محققين سعوديين وصل يوم السبت إلى إسطنبول بناء على طلب الجانب السعودي وموافقة الجانب التركي (...) للمشاركة في التحقيقات الخاصة باختفاء المواطن السعودي جمال خاشقجي". وظلت الرواية السعودية مصرّة على أن خاشقجي غادر القنصلية بعدما أجرى بعض المعاملات الإدارية الثلاثاء، وأن مكوثه في القنصلية لم يدم أكثر من 20 دقيقة. رواية جاءت كترجمة حرفية لكلام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لوكالة بلومبيرغ يوم الجمعة وحرفيته أنّ خاشقجي "ليس موجودًا في القنصلية"، مبديًا استعداده للسماح للسلطات التركية بتفتيش مقرّها رغم أنّ "المبنى خاضع للسيادة السعودية (...) لكن ليس لدينا شيء نُخفيه". وتابع ولي العهد السعودي في المقابلة: "بحسب ما علمته، أنه دخل وخرج بعد بضع دقائق أو ساعة، لست أكيدًا"، مضيفا أنه "حريص جداً لمعرفة ما حلّ به".


وما أصبح معروفاً عن ملابسات زيارة خاشقجي إلى القنصلية السعودية، يمكن أن يعزز الخوف على حياة الرجل، بما أن الأخير "ذهب إلى القنصلية بناء على موعد، وبالتالي كانوا يعرفون متى سيحضر" على حد ما كشفه ياسين أقطاي أيضاً، مستشار الرئيس رجب طيب أردوغان والمقرب من خاشقجي. وقال أقطاي إن خاشقجي "اتصل بالقنصلية قبل قليل من الذهاب إلى هناك ليرى إن كانت وثائقه جاهزة، فقالوا له نعم إنها جاهزة بإمكانك أن تأتي". وتابع النائب التركي إن "أصدقاء خاشقجي حذروه من الذهاب على اعتبار أن ذلك قد لا يكون آمناً، لكنه أجاب بأن السلطات لا يسعها أن تفعل له شيئاً في تركيا، فذهب إلى هناك واثقاً بأن أمراً كهذا مستحيل حصوله في تركيا"، على حد تعبير أقطاي. وتم استدعاء السفير السعودي في أنقرة إلى وزارة الخارجيّة وأعلن مدّعي عام إسطنبول فتح تحقيق في القضية. وفي واشنطن، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنه "لا يسعنا تأكيد" مصير جمال خاشقجي "لكننا نتابع الوضع عن كثب"، على ما قال متحدث باسم الوزارة. بدوره، أعلن السيناتور الديمقراطي كريس مورفي في تغريدة، أن "ثبوت اغتيال خاشقجي سيشكل شرخاً عميقاً بعلاقاتنا مع السعودية".


وصدرت بالجملة مواقف قلقة على خاشقجي من معظم المنظمات الدولية المعنية بالحريات الصحافية والإنسانية، فكتبت منظمة "مراسلون بلا حدود" على تويتر أنه في حال تأكدت المعلومات عن مقتل خاشقجي "فسيشكل ذلك هجوما مروعا ومؤسفا تماما وغير مقبول إطلاقا على حرية الصحافة". وكتب الأمين العام للمنظمة كريستوف دولوار أمس الأحد على تويتر "ستكون جريمة دولة من زمن ولى". كما أعربت "لجنة حماية الصحافيين" الأميركية عن قلقها، وحضت الرياض على توضيح المسألة. وكتب المدير التنفيذي المساعد للجنة روبرت ماهوني في بيان إن "لجنة حماية الصحافيين قلقة للمعلومات الصحافية التي أفادت بأن جمال خاشقجي قد يكون قتل داخل قنصلية السعودية في إسطنبول". وتابع أنه "على السلطات السعودية أن تقدم على الفور تقريرا كاملا ذا مصداقية عما حصل لخاشقجي داخل بعثتها الدبلوماسية". وكانت منظّمة "هيومن رايتس ووتش" ومنظمة العفو الدولية وجهتا تحذيرًا للرياض، مؤكّدتين أنه إذا كان خاشقجي موقوفًا لدى السلطات السعودية فإنّ ذلك سيشكل حالة "اختفاء قسري". وتحتل السعودية المرتبة 169 من أصل 180 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي تعده منظمة "مراسلون بلا حدود". وخاشقجي (60 عاماً) من أبرز الإعلاميين السعوديين والعرب وهو من الصحافيين السعوديين القلائل الذين انتقدوا حملات القمع في زمن محمد بن سلمان وكذلك له مواقف نقدية واضحة من حرب اليمن وحصار قطر والتحالف السعودي الأميركي والسياسة السعودية حيال الثورات العربية والإخوان المسلمين، من دون أن يعتبر نفسه معارضاً بالمعنى التقليدي للكلمة. وسبق للرجل أن تولى مناصب استشارية مهمة في العقود السابقة داخل الحكم السعودي، قبل أن يبدأ التضييق عليه تدريجياً، فمنع من كتابة المقالات في صحيفة الحياة، قبل أن يقرر التوجه إلى المنفى الاختياري الأميركي.

المساهمون