جعفر الزعفراني يكتب: سياسة الأغبياء

23 يوليو 2015
أيها الأغبياء ألا تتعلمون؟! (Getty)
+ الخط -

زنزانة انفرادية خرسانية لها باب أسود مُصمت، وفتحة صغيرة تتسلّل منها أشعة خافتة من مصباح نور..

الحر والرطوبة يُشعرانك أنك تأخذ أنفاسك الأخيرة، هذا الجسد الذي لا يجفّ عنه عرقه على عكس صنبور المياه الذي حُبست عنه مياهه بفعل فاعل.


في ذلك الوقت من العام الذي صام فيه الناس ثم اجتمعوا حول الموائد كي يتناولون ما لذّ وطاب ويطفئوا أجوافهم بماءٍ بارد، في ذات الوقت الذي يقبع فيه نزيل زنزانتنا صائماً بنهاره منتظراً إفطاره وسحوره رغيفاً بائساً مُطعَّماً بمختلف أنواع الحصى والرمل عليه مسحة من جبن.. وجبته الوحيدة التي يحصل عليها أو قد لا يحصل عليها في يومه وليلته.

ولكن يهون ذلك مقابل ما يحظى به النزيل بشكلٍ دائم من حملات التجريد التي تكون على الدوام مصحوبة بوابل من السباب والإهانات والضرب، تأتي على كل شيء في تلك الزنزانة من ملبس ومصحف وأوراق وأنبوب القلم، تلك الأشياء الخطرة التي يهرّبها النزيل في طيات ملابسه والتي يحصل عليها من زملائه في سجون أخرى يعترفون فيها ببعض حقوق الحيوان! حتى خاتم زواج أحدهم لم يسلم من هذا التجريد الذي لا يترك بعد رحيله عن الزنازين إلا بقايا نفس وبدن. كان هذا الوصف هو حقيقة ما يحدث في سجن العقرب!

ولكن كان لأحد نزلائه رواية أخرى عمّا يحدث..

المكان: سيارة الترحيلات...المتحدث: ذاك النزيل ذو اللحية الكثّة التي لم ترَ شفرة الحلاقة منذ ستين يوماً، هو لا ينتمي لأي تنظيمات قُبض عليه كآلاف غيره على سبيل الخطأ..

وإلى نص الحديث:

"إدارة السجن بينّكلوا بينا كل يوم منذ 29 يونيو على أثر مقتل الكلب النائب العام. ولاد الكلب دخلوا علينا بالكلاب، ضربونا وجرّدونا من كل شيء ناهيك عن السباب بكل الملل والأديان، فاكرين إنهم بكده هيكسرونا أو هيوقفوا الثورة بالخارج، لكن والله بس نطلع وهنطلّع عليهم القديم والجديد. أنا مكانش ليّا دعوة بأي حاجة بس بعد اللي بيعملوه فينا الكفرة دول الناس دي ملهاش إلا الذبح.

من أيام، سمعنا صوت من عنبر الإعدام كانوا بيعذبوا الإخوة هناك، لكن بعد فترة الأصوات هدأت وبدأت التكبيرات لتثبيت الإخوة هنا في باقي العنابر. الإخوة الله أكبر عليهم أسود حتى الإفطار اللي هو نفس السحور بيدخلولنا رغيف من القاذورات نقرف نيجي جنبه، لكن والله ما بنحسّ بالجوع بيكفينا شوية تمر اللي بيخشوا من جلسات المحاكمة، ده حتى التمر بيظبط السكر والضغط اللي عند الناس (قالها مبتسماً)".

بدأت علامات الهمّ والجزع تظهر على وجوه زملائه في سيارة الترحيلات، أكمل النزيل حينها عندما لاحظ ذلك: "إيه يا إخوة اثبتوا، إحنا مجيناش هنا إلا عشان ربنا، وكله يهون عشانه"، وأكمل في تحدٍ: "ومش هيعرفوا يحركونا عن معتقداتنا قيد أُنملة، المهم أخبرونا بعدد من قُتل منهم، الأخبار دي بتفرح الإخوة، خبر النائب ده كان من أسعد الأخبار اللي وصلت العقرب، اليوم ده كان عيد عندنا".

بينما هو يتحدث ظهرت تلك المعاني في رأسي عن غباء تلك الأنظمة القمعية التي حوّلت هذا الشاب البسيط من البساطة إلى وحشية الانتقام.

أيها النظام الغبي أنت بما تصنع لا تجني إلا مزيداً من الحقد والكره والعنف والرغبة العارمة في الانتقام.

أيها النظام الغبي أنت تتعامل مع أناس عداوتهم لك عقيدة ودحرك تقرّبٌ إلى الله، فلا يضرهم لا عصاك ولا رصاصك.

أيها النظام الغبي متى تفهم أن من يقود الحراك والثورة هم أبناء الخمسة عشر والعشرون عاماً، ليسوا القابعين خلف قضبانك الحديدية فلن يتوقف الحراك مهما شددت الوطأة بخسّة على من تحت قبضتك.

أيها النظام الغبي أنت من دون أن تدري قد ربيت جيلاً لن تستطيع مقاومته أو التعامل معه، قتلت الخوف بداخله وصنعت منه عِفريتاً ستعجز عن صرفه.

أيها النظام الغبي أنت تفعل حرفياً ما فعلته كل الأنظمة القمعية التي ما حصدت إلا مزيداً من البشاعة في نهايته.

أيها الأغبياء ألا تتعلّمون؟!

*سجن استقبال طرة

(مصر)

المساهمون