جسر الحرّاش... مملكة المهمشين في الجزائر

23 فبراير 2017
يعرضون سلعهم القديمة (إسماعيل مالكي)
+ الخط -
كأنه من زمن آخر. هذا هو الانطباع الذي يفرضه عليك سوق جسر الحرّاش في الجزائر العاصمة، بباعته المنتمين إلى الطبقة المسحوقة، وسلعه القديمة أو المنتهية الصلاحية والتي تجاوزتها الموضة

حين خرجت فرنسا من الجزائر في عام 1962، كانت السباحة ممكنة وكذلك صيد الأسماك في وادي الحرّاش الذي يفصل بين الجهتين الشرقيّة والغربيّة للجزائر العاصمة. أمّا اليوم، فقد بات أحد أكثر الوديان الجزائريّة قذارة، تنبعث منه روائح كريهة، على الرغم من أنّ المواكب الرسمية تمرّ فوقه يومياً خلال توجهها إلى مطار هواري بومدين الدولي.

الوادي الذي تنبع مياهه من جبال الأطلس البليدي، شيّدت فوقه جسور عدّة تربط أطراف مدينة الحرّاش. والأشهر هو ذلك الذي يربط محطة القطار بمبنى البلدية. أمّا سبب شهرته، فهو السوق الذي يختلف عن الأسواق الشعبية الأخرى في الجزائر العاصمة، لجهة طبيعة الباعة والزبائن والسلع المعروضة فيه.

في هذه البقعة، تجّار جسر الحرّاش هم أوّل من يتحرّك قبيل شروق الشمس، إلى جانب العصافير. وترى الشيوخ والكهول والشباب والمراهقين ينشطون في المكان صامتين، فينصبون أغطية مهترئة ليعرضوا عليها سلعاً قديمة. كثيرون يستغربون جدوى ذلك، إذ تبدو السلع غير صالحة. ويسأل أحد المارة "هل هذه سلع أم أعباء؟"، لافتاً إلى أنّها سوف تتحوّل إلى عبء على مشتريها، إذ هي قديمة أو منتهية الصلاحيّة أو تجاوزتها الموضة.

من السلع المعروضة، سراويل "باديليفان" (الواسعة عند أسفلها)، التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي. حينها، كانت تلك الموضة مهيمنة على الشارع الجزائري بالتزامن مع الشعر الطويل، ليشكّلا معاً "اللّوك" (المظهر) الدالّ على الاشتراكيّة يومها. يسأل العم رمضان، الذي يعرض بعضاً من تلك السراويل: "هل تظنّون أنّ الموضة تغيّر كلّ شيء؟ ما زال في العاصمة من يتمسّك بموضة السبعينيات ويفتخر بها، والدليل أنّني أبيع ما لا يقلّ عن أربعة سراويل يومياً. كذلك، ثمّة فئات ما زالت تطلبها، مثل البحارة". وعند الإشارة إلى قِدمها واتساخها، يردّ العم رمضان: "هناك من هو في حاجة إليها يا ولدي، مثلما هناك زبائن للمحال الراقية في ضاحيتي حيدرة وسيدي يحي".

في هذه البقعة التي يسمّيها سكّان العاصمة "القنطرة البيضاء"، يمكن للمرء أن يعثر على مصفاة لبرّاد القهوة، أو كانون من زمن الثورة، أو أشرطة كاسيت لمطربين لم يعد يسمع بهم الجيل الجديد، أو ملعقة خشبية، أو كتب مدرسية لمناهج لم تعد معتمدة منذ عقدَين من الزمن، أو حذاء لطفل فقد لونه. وتزداد الغرابة حين تجد شخصاً يبيع فردة حذاء واحدة. يقول أحدهم: "هناك من يشتريها ويدبّر فردة أخرى قريبة منها. المهمّ عنده أن يمارس الرياضة". يضيف: "عليك أن تنظر إلى هذا السوق حتى تستوعبه. هو موجود في مدينة يسكنها ثمانية ملايين إنسان. هؤلاء ليسوا متساوين في الغنى، ولا بدّ من الحرص على المنطق في عمليتَي البيع والشراء. ربّما يدهشكم السوق لأنّكم لا تعرفون زبائنه، وتظنّون أنّ الجزائر كلّها واحدة لجهة تركيبتها الاجتماعيّة، بينما هي ليست كذلك".

هل يجب التركيز على السلع المعروضة أم وجوه عارضيها؟ كلّ شيء بات قديماً وينتمي إلى أزمنة لم نعد نتقاطع معها إلا من خلال الأشرطة الوثائقية والأفلام الثورية وصور بالأبيض والأسود. ويحضر النصف الأوّل من القرن العشرين بقوة، حين كان الاحتلال الفرنسي يخنق الإنسان والمكان، بالإضافة إلى حقبة الاستقلال الوطني، حين كان دحمان الحرّاشي يصدح بأغانيه المليئة بالحكم والمواعظ الإنسانية.

يلفت انتباهنا العم محرز، وهو يعرض علينا أعداداً من مجلة لبنانية قديمة، إلى أنّ روح التنافس بين الباعة في السوق جيدة، بخلاف ما هي عليه في الأسواق الأخرى. يقول: "هنا يتعايش الجميع مع بعضهم بعضاً، بعيداً عن الأنانيات، لأنّهم ينتمون إلى الطبقة المسحوقة نفسها. ولك أن تلاحظ ذلك عند الغداء، إذ يعرض كلّ واحد منّا طعامه على غيره". ويؤكد حسين الأمر، "معظمنا يأتي إلى هنا ليعرض سلعة ما، لكنّه في العمق يبحث عن دفء عائلي يفتقده. فأنا مثلاً أقيم في مرقد جماعي يستوعبني ليلاً ويلفظني نهاراً".

(إسماعيل مالكي) 


في الآونة الأخيرة، التحق بالسوق أفارقة مهاجرون، يبيعون النظارات الشمسية والخواتم وأعواد الأراك وبعض الأعشاب الطبية، وقد أجمعوا على أنّهم لم يتعرّضوا لأيّ سلوك عنصري داخل السوق. "ما أطيب الناس هنا، إنّهم يؤمنون جميعاً بأنّ الرزق من عند الله، ولا يتبرّمون من أيّ منافسة"، يقول موسى وهو مهاجر مالي.

في مفارقة، يرتدي شبان ملابس تتناسب مع تسريحات شعر عصرية، ويتجوّلون في السوق. فيقول نزيم في هذا السياق: "يبدو هذا السوق متخصّصاً في الأغراض القديمة والمهملة. لكنّني أقصده من حين إلى آخر، لعلّني أجد فيه غرضاً نادراً لا يعرف بائعه قيمته، فأشتريه بسعر زهيد. بعض السلع النادرة تكون مسروقة من مناطق بعيدة وتباع هنا. يمكن العثور مثلاً على ساعة سويسرية بعشرين دولاراً أميركياً".

من جهته، يقول الكاتب والحقوقي محمد عاطف بريكي، الذي كان يتجوّل في السوق: "أنسى الروائح الكريهة المنبعثة من الأسفل، وأتفرّغ لتأمّل الوجوه والحركات والأصوات والسلع. أتساءل كيف بقي هذا المكان بعيداً عن الاستثمار السينمائي والروائي".