جريمة كبرى

18 ديسمبر 2018
الأمل هو ما يحتاجه بالفعل (Getty)
+ الخط -

"أخيراً... أوّل دواء يجتثّ السرطان من جذوره". جذّاب هذا العنوان الذي تكرّر في أكثر من صيغة ونُشِر وبُثّ في أكثر من وسيلة إعلاميّة عربيّة. هو عنوان يحمل كثيراً من الأمل. والأمل هو ما يحتاجه بالفعل هؤلاء الذين يصارعون ذلك المرض الخبيث. مهلاً... "السرطان" مفردة فضفاضة. مرض السرطان ليس واحداً، لا بل هو أمراض تختلف نشأتها ونموّها، وبالتالي علاجاتها. هكذا، فإنّه من الضروريّ أن يكون ذلك الدواء سحريّاً حتى يتمكّن من اقتلاع الأمراض السرطانيّة جمعاء من منابتها. هذا ما يفترضه المنطق، وإن كان المنطق لا يعترف بصفة "السحريّ".

يفيد الخبر الذي يفصّل العنوان الجذّاب، بأنّ إدارة الغذاء والدواء الأميركيّة، تلك الهيئة الموثوق بقراراتها في العالم أجمع، هي التي أجازت علاج "لاروتريكتينيب". اسم الدواء يأتي مُربكاً بعض الشيء بالأحرف العربيّة، لذا عمد ناشرو "البشرى السارة" إلى تضمينه في نصوصهم بالأحرف اللاتينيّة، إلى جانب الاسم التجاري المطروح به "فيتراكفي". الاسمان غير مهمَّين هنا، والمسألة خطرة. نعم، هي كذلك من دون شكّ. المعلومات الواردة في الخبر مجتزأة، لا بل محرّفة في بعض الأحيان. المترجم، في الواقع الأمر يتعلّق بأكثر من مترجم بما أنّ الوسائل الإعلاميّة التي تداولت الخبر أكثر من واحدة وفي أكثر من بلد، إمّا أسقط نقاطاً لم يفهمها إذ إنّها علميّة طبيّة معقّدة، وإمّا قصد غضّ الطرف عنها بهدف الإثارة، وإمّا أخطأ في تعريبها. كذلك قد يكون الخبر المثير بعنوانه الجذّاب ورد في واحدة من الوسائل الإعلاميّة، لتنقله عنها أخرى من دون التحقّق من المصدر، مكرّرة خطأ/ خطيئة الوسيلة الأولى. وتبقى النتيجة واحدة تضليلاً وآمالاً زائفة.

لن نخوض في التفاصيل العلميّة، غير أنّه لا بدّ من التصويب والإشارة إلى أنّ الدواء الجديد يستهدف حصراً أمراضاً سرطانيّة ناجمة عن طفرة جينيّة معيّنة، علماً أنّ تلك الطفرة نادرة. بالتالي، فإنّه ليس علاجاً سحريّاً ونهائيّاً لـ"السرطان". لا بدّ من توضيح ذلك، قبل أن يتسبّب الأمر في إحباط كثيرين رأوا في الأمر توجّهاً أكيداً نحو "خاتمة سعيدة" لمعاناتهم. ولا بدّ من مساءلة مترجمي التقرير ومحرّريه وكلّ من وافق على نشره وبثّه. فتصير المهنيّة محطّ شكّ، وكذلك أخلاقيّات المهنة. ويُطرَح السؤال: من يتحمّل مسؤوليّة ذلك التضليل وتلك الآمال الزائفة؟




التضليل ليس مستجدّاً. هو واقع لا يحتمل الجدال. ولا يفهم أحد أنّ في هذه الإشارة محاولة للتبرير بأيّ شكل من الأشكال. تضليل هؤلاء الذين يصارعون المرض الخبيث جريمة، وإحياء الآمال الزائفة فيهم جريمة كبرى. يا ليت من ترجم وحرّر ونشر وبثّ كان يدرك الفزع الذي ينهش هؤلاء... الفزع من الهلاك. يا ليت من ترجم وحرّر ونشر وبثّ كان يدرك أنّ الأمل الزائف بالحياة يُهلك هؤلاء... وربّما أكثر ممّا يفعل المرض الخبيث.
دلالات
المساهمون