خلاصة كلام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أمس الثلاثاء، بخصوص جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، يمكن اختصارها بأن لا عقوبات أميركية ضد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حتى لو كان قد عرف بالجريمة مسبقاً أو أمر بتنفيذها.
قالها ترامب بصورة حاسمة وإن مبطّنة، في بيان مفاجئ، استعاض به عن تقرير "كامل" حول هذه القضية، كان قد وعد، قبل يومين، بصدوره عن وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، غير أنّه استبق التقرير بموقف نهائي، لأنّ الوكالة على ما بدا، غير قادرة على التراجع عن استنتاجها الذي يتصادم مع قراره.
بيان ترامب "الغريب والمغالط" كما وصفه وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري، فيه كل شيء إلا الكلام عن جريمة خاشقجي وتفاصيلها المعروفة، ناهيك عن التهمة والمتهم والعقوبة المنتظرة.
ذكر ترامب إيران أكثر مما ذكر اسم خاشقجي. وحوّل الموضوع إلى حديث عن الأمن القومي و"حماية اسرائيل". صوّب التركيز على أهمية العلاقات مع المملكة "كحليف". شكّك ضمناً بخلاصة استخباراته، قائلاً "ربما كان ولي العهد على علم بالجريمة وربما العكس"، في ردّ واضح على ما أكدته "سي آي إيه"، وهو استنتاج أعاد تأكيده مصدر رفيع في وزارة الخارجية الأميركية، حسب شبكة "إيه بي سي".
ترك ترامب التهمة معلّقة ومفتوحة على الشك وبالتالي على البطلان، وفق تقديره، ولم يعلن حتى أنّه سيطالب القيادة السعودية بثمن إذا ثبت علمها المسبق بالحريمة، فهذا الثبوت مستبعد عنده. "كل العالم مقتنع بالتهمة إلا الرئيس ترامب"، قالت دانيال بلاتكا نائبة رئيس مؤسسة "أميركان إنتربرايز" المحافظة للدراسات في واشنطن، بينما قال ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية، إنّ السعودية، كانت "الأكثر أذى لمصالحنا" في المنطقة.
في تعليله غير المتماسك، استند ترامب إلى حيثيات استهلاكية سبق وجرى تفنيدها مراراً، من جانب الكونغرس وغيره. تذرّع بمصلحة "أميركا أولاً"، وبأهمية الحفاظ على صفقات السلاح مع المملكة وما تؤدي إليه من "خلق فرص عمل"، فضلاً عن "ضرورة حماية الاقتصاد العالمي" من هزّات تقلّبات سوق النفط.
تسويغات موجّهة إلى قاعدته الانتخابية، لا سيما أرقام بيع السلاح للمملكة (114 مليار دولار) المضخمة بأضعاف، والتي وظّفها "كمسألة تجارية في حين أنّها مسالة أمن قومي" كما يقول السناتور رون بول الذي يزمع بالاشتراك مع عدد من الديمقراطيين والجمهوريين، على تقديم مشروع قانون، الأسبوع المقبل، لوقف تزويد السعودية بالسلاح.
لم يكن من المتوقع أن يخرج ترامب بموقف مغاير لما اعتمده من الأساس، في قضية خاشقجي، لكن لم يكن من المتوقع أيضاً أن يأتي "بعفو" من هذا النوع، بعد الذي كشفته استخباراته.
ولذلك أثار بيانه ردوداً فورية رافضة، وبكثير من الذهول والغضب. ليس في وسائل الإعلام فقط، بل أيضاً في الكونغرس الذي صدرت عن أوساطه توعدات بأخذ إجراءات عقابية سريعة.
كما أحدث ارتدادات ناقدة بشدة في صفوف خبراء ونخب سياسية من كافة المشارب، وفي أوساط مسؤولين سابقين، ويبدو من أجوائها أنّها ليست سوى أول الغيث.
وعلى الفور حاولت الإدارة تطويق الخسائر. وزارة الخارجية ألغت اللقاء الصحافي العادي، بعد الظهر، واستبدلت به على وجه السرعة لقاء عاجلا لوزير الخارجية مايك بومبيو مع الصحافة، سمح خلاله بخمسة أسئلة فقط.
اثنان عن بيان الرئيس، كانت أجوبته عليهما مقتضبة وعمومية، مع كثير من علامات الإحراج، فالبيان جاء ليعكس مدى التباين داخل الإدارة، بشأن التعاطي مع المملكة في قضية خاشقجي، التي استعصى التستر عليها وتسويق سيناريوهاتها التي أعفت القيادة السعودية.
قبل يومين، شدد نائب الرئيس مايك بنس على عزم الإدارة "على محاسبة أي شخص" له علاقة بهذه الجريمة. وقبل تسعة أيام، شدد وزير الخارجية بومبيو على أنّ "الولايات المتحدة سوف تحاسب كل من له علاقة بقتل خاشقجي".
حتى الرئيس نفسه تحدّث، في البداية، عن إنزال "عقوبة صارمة" بالمذنب. لكن ذلك جاء في سياق شراء الوقت علّه يتكفّل بتمييع القضية. الآن بعد أن تواصلت المطاردة الإعلامية، وبعد أن فضحت الاستخبارات المستور، صارت اللفلفة متعذرة والتهمة لاصقة بالمتهم. لكن ترامب عاند مع ذلك التيار، وتمسّك بموقفه على طريقة "عنزة ولو طارت".