جرعة وهم

27 سبتمبر 2015
+ الخط -
في الانطباع الأول الذي أحدثه دخول روسيا العسكري إلى سورية، تبدو الأمور وكأن هزيمةً ساحقة نزلت بثورتها، بمجرد أن وطأ أول جندي روسي ترابها. هذا الانطباع عزّزه النظام عبر تصريحات مسؤوليه، وخصوصا المشهورين منهم بالتشبيح الكلامي، مثل وليد المعلم الذي اعترف بعكس ما قاله دوماً سيده بشار الأسد، وهو أن النظام سيقلب توازنات القوى لصالحه بفضل التدخل الروسي، بينما كان فشار يؤكد أن النصر لم يعد غير مسألة أيام أو أسابيع، وربما ساعات.
ليس دخول الروس إلى بلادنا أمراً قليل الأهمية والخطورة، لكنه ليس في المقابل حكم إعدام على ثورة شعبنا التي ليست فعلاً عابراً، يمنحه مواطنونا تأييداً محدوداً. وليست "هوجة"، قام بها عصاة خارجون على القانون، أو إرهابيون يناهضون الإنسان وقيمه التي تضفي السمو والنبل على حياته، بل هي انقلاب تاريخي، عميق الجذور إنسانياً وسياسياً، تؤكد مجرياته أنه من أعظم الثورات التاريخية، سواء من حيث اتساعه ومطالبه وصموده، والانتصار الذي ينتظره. ومن يتابع مساره، وما أحاط بها من تحديات ومصاعب، سيدهشه نجاحه في تخطيها جميعها، وسيعجب من صموده في وجه آلة قتل منظمة، تضم مليون مسلح، ينضوون في جيش النظام وأجهزة قمعه، تمسك بهم يد من حديد تمقت شعب سورية، وتديرهم بطرقٍ لا تسمح لأحد منهم بالإفلات مما يرسمه له "قادة" تخلو قلوبهم من الرحمة والتعاطف الإنساني، ينفذ "عبيدهم" في الجيش والأمن أوامرهم، بما في ذلك هدم بيوتهم على رؤوس أطفالهم وذويهم. من المعلوم أن الثورة بدأت في ظل تفوق عنفي ساحق لآلة القمع والقتل التي يسمونها النظام السوري، وها هو كيس الكذب الذي يلقبونه "المعلك" في سورية يعلن سعادته، لأن ميزان القوى سينقلب لصالح نظامه بعد التدخل الروسي، متناسياً أنه يقر اليوم بما سبق له أن أنكره دوماً، وهو أن ميزان القوى كان لصالح الثورة ، وأن الشعب السوري حقق، بمقاومته، انقلاباً استراتيجياً طاول علاقات القوة بينه وبين سلطةٍ، تعتبر نفسها استعماراً داخلياً، تقتصر روابطها مع "شعبها" على إبقائه خاضعاً ومستسلماً، من خلال اضطهاده وقتله، لأنها ترى فيه عدواً لا ينفع معه لين، ولا يجوز أن تكون في قاموس إذلاله كلمة واحدة عن الحرية.
هذا الانقلاب هو اليوم أيضا سمة الوضع السوري الذي أنتجته مقاومة وطنية/ مجتمعية واسعة جداً، ولن يلغيه مئات أو آلاف الجنود الروس الذين سيرتطمون بسلاحٍ، يدفع أغلبية السوريين إلى معركة المصير الوطني، هو روحهم الثورية المجبولة بالحرية التي مكّنتهم من كسر شوكة مئات آلاف القتلة والمرتزقة المحليين والمستجلبين، المزودين بأفتك أنواع السلاح الروسي، وتحقيق انتصاراتٍ أدهشت العالم أربعة أعوام ونصف العام، على الرغم مما كابدوه من آلام، وتعرّضوا له من خسائر، وعانوه من تجاهل دول كبيرة ومؤثرة لهم، ومن تواطئها ضدهم، مع النظام وشركائه الإرهابيين.
أكرر: ليس دخول الروس العسكري إلى بلادنا حدثاً عابراً أو قليل المخاطر. لكنه ليس أيضاً حكماً قطعياً بالفشل، أو بالإعدام على ثورتنا وحريتنا. إنه تحد آخر يُضاف إلى تحدياتٍ من كل صنف ولون، تخطاها شعبنا. ولن يمر وقت طويل، قبل أن تتكيف الثورة مع التحدّي الروسي وتتخطاه.
استهلك النظام كل ما قدم له من جرعات وهم، بدأت إيرانية وتصير اليوم روسية. وفي الحروب والثورات، لا يقترب من يتجرّع الأوهام من النصر، بل يكون مصيره الهزيمة.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.