تتكرّر الأخطاء الطبيّة في السعوديّة وتكثر الأخبار التي تتداولها، فيما تشير التقارير الرسميّة إلى أرقام تدعو إلى القلق. أمّا الأهمّ، فهو أنّ الضرر يقع على المريض ولا يرتدع الطبيب.
لم تجد وزارة الصحة السعودية حلاً لوضع حدّ لتزايد الأخطاء الطبية في البلاد ولضبط بعض الممارسات غير النظامية للمهن الصحية، سوى تحويل الأطباء المخالفين والذين يرتكبون أخطاء طبية تؤدّي إلى الوفاة أو العجز، إلى هيئة التحقيق والادعاء العام التي تملك سلطة التحقيق والادعاء في المخالفات الطبية. وباتت تلك المخالفات، بحسب قرار الوزارة، جرائم يعاقب عليها بالسجن لمدد متفاوتة بحسب نظام مزاولة المهن الصحية.
وأكد المتحدّث الرسمي باسم وزارة الصحة السعودية، مشعل الربيعان، أنّ الوزارة سوف تبدأ بإحالة المخالفين إلى هيئة التحقيق والادعاء العام مباشرة، هؤلاء الذين يرتكبون مخالفات نصّ عليها النظام، ومنها على سبيل المثال مزاولة المهن الصحية من دون ترخيص، وتقديم بيانات غير مطابقة للحقيقة، واستعمال وسيلة من وسائل الدعاية يكون من شأنها حمل الجمهور على الاعتقاد بأحقيّته في مزاولة المهن الصحية خلافاً للحقيقة. من المخالفات كذلك، العثور على آلات أو معدات لديه مما يُستعمَل عادة في مزاولة المهن الصحية من دون أن يكون مرخصاً له بمزاولة تلك المهن، أو من دون أن يتوفّر لديه سبب مشروع لحيازتها، بالإضافة إلى الاتجار بالأعضاء البشرية.
وتشمل الممارسات المجرّمة إجراء الجراحات الخاصة بالسمنة من قبل جرّاح غير متخصص، أو إجراء عمليات قسطرة القلب من قبل طبيب غير متخصص، أو غيرها من الحالات التي يُقدَّم فيها العلاج من قبل ممارس صحي في تخصص غير تخصصه، لأغراض مادية أو علمية. وشدّد الربيعان على أنّ هذه الإجراءات جاءت للحدّ من الممارسات غير النظامية التي عرّضت سلامة المرضى للخطر.
تجدر الإشارة إلى أنّه منذ عام 2006، كانت الجهة التي تنظر في أخطاء الممارسين الصحيين هي الهيئات الصحية الشرعية، التي تشكّلت بمرسوم ملكي لتكون محاكم متخصصة تنظر في الأخطاء الطبية، ولها سلطة مطلقة في إصدار الأحكام وفق نظامها. وكان يترأس كلّ هيئة قاض معيّن من قبل وزارة العدل، وتضمّ في عضويتها ثلاثة أطباء استشاريين من ذوي الخبرة.
خطوة جديدة
التحويل إلى القضاء الجنائي ليس الخطوة الوحيدة، التي أقرّتها وزارة الصحة، فهي تدرس كذلك تطبيق التأمين الإلزامي ضدّ الأخطاء الطبية على جميع الممارسين الصحيين من دون استثناء، بعدما كان التطبيق مقصوراً على الأطباء فقط. ومن شأن ذلك رفع قيمة التعويضات لضحايا الأخطاء الطبية، التي لم تكن تلائم الجرم الذي وقع في حقّهم، خصوصاً في الأخطاء التي تتسبب في وفاة المريض أو تعرّضه لإعاقة تستلزم عناية طبية دائمة. وقد أكدت دراسة أعدّها مجلس الضمان الصحي قبل نحو أسبوع، على أنّ وجود تأمين سوف يسهم في تحسين الخدمة من قبل الممارسين، موضحة أنّ تطبيق التأمين الإلزامي ضدّ الأخطاء الطبية لا يعني عدم المساءلة الجنائية للمتسببين بها. ويشير مصدر في المجلس إلى أنّ "التعويض عن الخطأ الطبي سوف تعوّضه شركات التأمين، لكنّ المتسبب فيه سوف يعاقب كذلك إذا كان الخطأ نتيجة إهمال وغيره. وذلك عن طريق المساءلة الجنائية". ويتوقع خبراء في المجال أن تسهم هذه الخطوات في تقليل الأخطاء الطبية، التي باتت مرتفعة كثيراً في الأعوام الماضية، بطريقة أثّرت سلباً على المشهد الصحي في البلاد. يُذكر أنّ الإصلاح لم يتمّ، على الرغم من استحواذ الصحة على 16 في المائة من موازنة الدولة السنوية، وما زالت الأخطاء الفادحة تسجّل في كلّ أنحاء البلاد.
يفيد تقرير رسمي أصدرته وزارة الصحة أنّ ألفاً و759 طبيباً وألفاً و945 ممارساً للرعاية الصحية ارتكبوا أخطاء طبية في العام الماضي فقط، وثمّة أكثر من ألفَين و400 قضية رُفعت أمام اللجنة الطبية المختصة، وتصدّرت قائمة الأخطاء الطبية التي تحدث أثناء الولادة القائمة مع نسبة 70 في المائة. ويبيّن التقرير أنّ أعلى نسبة حالات أخطاء طبية هي للأطباء المصريين مع نسبة 44 في المائة، يليهم السعوديون مع نسبة 15 في المائة، والسوريون مع تسعة في المائة والهنود مع ستة في المائة. أمّا الأخطاء الطبية الكبيرة التي هددت حياة المرضى، فقد بلغت في العام الماضي 346 خطأ طبياً، وخُصّص أكثر من 12 مليون ريال سعودي (نحو ثلاثة ملايين و200 ألف دولار أميركي) كتعويضات، بمعدّل 38 ألف ريال (نحو 10 آلاف و150 دولاراً) عن الخطأ الواحد. وما زالت أكثر من 219 قضية مرفوعة، في انتظار الحكم فيها.
مخاوف أكبر
يتخوّف خبراء في الشأن الطبي السعودي من أن تزيد الأخطاء الطبية عن تلك التي سجّلت في العام الماضي، والتي تجاوزت ثلاثة آلاف و704 أخطاء، خصوصاً مع توالي الأخبار عن وفاة مرضى نتيجة أخطاء مختلفة. خلال الشهر الماضي فقط، برزت أربع قضايا حول أخطاء طبية فادحة. في الطائف، تسبّب طبيب جرّاح في وفاة محمد الثبيتي الذي دخل المستشفى لإجراء جراحة مرارة بسيطة. لكنّ أمراً غير متوقّع حدث في غرفة العمليات تسبّب في تعرضه لنزيف حاد لم يفلح 15 كيساً من الدماء في تعويضه. توفي الثبيتي على طاولة الجراحة، ولم يشرح الأطباء ما حدث تحديداً واكتفوا بذكر "التعرض للنزيف" كسبب للوفاة في تقريرهم. وهو ما دفع عائلة الضحية إلى المطالبة بتحقيق لمعرفة كيفية حدوث النزيف في عملية لا تتطلب أكثر من شقّ صغير لإدخال المنظار الجراحي.
خلال الشهر ذاته، قضت الهيئة الشرعية الصحية في منطقة المدينة المنوّرة، بتغريم أحد الأطباء الذين أجروا عمليات ختان ألحقوا خلالها الضرر بالأعضاء التناسلية لثمانية أطفال ذكور، مبلغ مليون ريال (نحو 270 ألف دولار) كتعويضات مالية عن الخطأ الطبي الذي تسبّب بإلحاق ضرر لدى الأطفال الثمانية. وما زال أولياء الأطفال يلاحقون الطبيب جنائياً.
أمّا الخطأ الأبرز، الذي سُجّل أخيراً، فهو ما تعرّضت له الطفلة حلا العتيبي قبل نحو أسبوعَين، وتسبّب في فقدانها حواس السمع والنظر والنطق، نتيجة إهمال أحد المراكز الصحية الأهلية في جدّة (غرب). وقد حوّلت وزارة الصحة الطفلة التي لم تتجاوز الرابعة من عمرها إلى مستشفى تخصصي، حيث خضعت لفحوصات فيما العمل جار لإنقاذها. يُذكر أنّ الطبيب المعنيّ ما زال، وكذلك المركز الصحي، يخضعان للتحقيق.
ردع وصرامة
في هذا السياق، يتوقّع الطبيب المتخصص في أمراض القلب، الدكتور فهد القميزي، أن تجعل الإجراءات الجديدة الأطباء أكثر تركيزاً في عملهم، وتردع خصوصاً الأخطاء التي تقع بسبب الإهمال، إذ إنّ هيئة التحقيق والادعاء العام سوف تكون أكثر صرامة في تطبيق القوانين. ويقول لـ "العربي الجديد" إنّ "مشكلتنا كانت في عدم تساوي العقوبات والغرامات مع الجُرم، فيما تعمد مستشفيات عدّة إلى ترحيل الأطباء فور وقوع الخطأ خوفاً من المحاسبة. في تصوّري، لن يكون ذلك ممكناً بعد اليوم، لأنّه سوف يُعدّ مشاركة في الجريمة". يضيف: "كنّا نعاني من أنّ العقوبة ضعيفة وغير رادعة، لهذا تتزايد الأخطاء عاماً بعد عام، ولأنّ الأطباء بغالبيتهم وافدون، فإنّه من السهل على المنشأة الصحية أن ترحّل الطبيب المخالف وتستقدم آخر، فيما لا تملك الوزارة حقّ ملاحقة الطبيب في بلده. لكن مع تطبيق النظام الجديد، سوف تكون ممكنة ملاحقة الطبيب لو هرب، عبر الإنتربول (منظمة الشرطة الجنائية الدولية)".
من جهته، يقول المتخصص في طبّ العظام، الدكتور أحمد الموسوي، لـ "العربي الجديد" إنّه "لا يمكن السيطرة على الصحة السعودية لأنّها منقسمة بين مستشفيات وزارة الصحة وبين المستشفيات التعليمية التي تتبع وزارة التعليم وبين المستشفيات العسكرية التي تتبع مراجعها، من وزارة دفاع وداخلية وحرس وطني. بالتالي، لا تملك وزارة الصحة حقّ محاسبة الجميع. لكنّ هيئة التحقيق والادعاء العام سوف يكون لها هذا الحق". ويضيف: "أرى أنّ هذا الأمر سوف يحدّ من الأخطاء المتسارعة التي وصلت إلى مرحلة خطرة"، مشدداً على أنّ "الأمر يعتمد على تطبيق النظام بصرامة مع عقوبات صارمة. فعندما تعاقب طبيباً يتقاضى شهرياً 120 ألف ريال (نحو 32 ألف دولار) بغرامة قدرها 20 ألف ريال (نحو 5400 دولار)، فهو لن يرتدع أبداً، في حين تكون حياة المريض قد تدمّرت".