جرائم برسم الفاتيكان... مسلسل الاعتداءات الجنسية يتضخم ومحاولة إلصاق التهمة بـ"الشيطان"
ما بين 21 فبراير/ شباط الماضي و24 منه، عُقدت قمّة في الفاتيكان أكّد في ختامها البابا فرنسيس الأوّل أنّ "الكنيسة الكاثوليكية سوف تتوقّف عن التستّر على مرتكبي الجرائم الجنسية في حقّ القصّر"، وقد وصفهم بأنّهم "أداة للشيطان".
لم تأتِ نتائج قمّة الفاتيكان الخاصة حول اعتداءات رجال الدين الجنسية على القصّر، والتي عُقدت على مدى أربعة أيام، بنتائج ترضي الضحايا وأهلهم ومعنيّين آخرين بهذه القضية. هؤلاء كانوا قد دعوا إلى محاسبة مرتكبي الجرائم الجنسية على اختلافها، قبل أن ينتقدوا في النهاية "العموميات" التي خرج بها المجتمعون وعدم اتخاذهم إجراءات حاسمة في السياق.
والكنيسة الكاثوليكية تجد نفسها منذ أعوام مضطرة إلى مواجهة فضائح متكررة، لعلّ آخرها إدانة ثالث أكبر مسؤول في الفاتيكان، وزير الخزانة، الكاردينال الأسترالي جورج بيل (77 عاماً)، بالاعتداء على فتيَين في ملبورن (أستراليا) في خلال تسعينيات القرن الماضي. يُذكر أنّ الحكم بالإدانة كان قد صدر في 11 ديسمبر/ كانون الأوّل المنصرم، لكنّ الإعلان عنه أتى يوم الثلاثاء في 26 فبراير/ شباط الماضي. وتُضاف جريمة بيل إلى أخرى ارتكبها آخرون لتؤكّد ما يدور منذ عقود تحت سقف الكنيسة الكاثوليكية والذي يسيء بشدّة إلى سمعة الفاتيكان. يُذكر أنّ الفاتيكان أكّد، ليل الثلاثاء ــ الأربعاء الماضي، أنّ بيل أزيح من منصبه كوزير للخزانة. وكان رأس الكنيسة الكاثوليكية، البابا فرنسيس الأوّل، قد شدّد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، على ما تعانيه الكنيسة حول العالم من جرّاء قضايا مماثلة يتورّط فيها أصحاب مناصب عالية، واعداً بعدم تجاهلها. وعلى خلفية ذلك، استضاف الفاتيكان قمّة وُصِفت بـ"التاريخية" و"الاستثنائية"، حضرها أكثر من 200 مشارك رفيع المستوى من حول العالم لبحث الفضائح الضخمة والمتراكمة التي تصفها الصحف الأوروبية بأنّها واحدة من كبرى الأزمات التي عصفت بالكنيسة الكاثوليكية في تاريخها.
الكاردينال جورج بيل قبيل إدانته بارتكاب جرائم جنسية في حقّ طفلَين (مايكال دودج/ Getty) |
"إجراءات ملموسة"
القمّة التي تمحورت حول موضوع حماية القصّر في الكنيسة والتي جعلت المهتمّين بها يتوقّعون الكثير منها، دعا البابا فرنسيس الأوّل المشاركين فيها من خلال كلمته الافتتاحية إلى "الإنصات إلى أنين الصغار الذين يطالبون بالعدالة"، مشدداً على أنّ الضحايا يستحقّون "إجراءات ملموسة وفعّالة" وليس فقط إدانة لمرتكبي الأفعال المشينة.
لكنّ التحدّث عن "الشيطان" في ختام أعمال تلك القمّة لم يرق لكثيرين، خصوصاً من الضحايا، أينما وجدوا حول العالم. وقد انتقدت الصحافة، العلمانية كما الدينية، وصف المعتدين على القصّر بأنّهم "أدوات الشيطان"، على الرغم من أنّ البابا تعهّد بعدم التسترّ عن أيّ اعتداء وتناول كلّ قضية بجدية كبرى. يُذكر أنّ الضحايا والجهات الممثلة لهم وأسرهم طالبوا قبيل القمّة باعتماد مبدأ "صفر تسامح" مع مرتكبي الاعتداءات الجنسية في الكنسية، لكنّهم راحوا يعبّرون عن خيبة ومرارة من جرّاء "إبعاد الكنيسة المسؤولية عنها (إلى الشيطان) من دون تحديد إجراءات ملموسة"، بحسب ما جاء في صحيفتَي "إنفورماسيون" و"كريستليت داوبلاد" الدنماركيتَين، كذلك الأمر في وسائل إعلام إيطالية وألمانية وأميركية وعلى مواقع مؤسسات معنيّة بما يجري. تجدر الإشارة إلى أنّ الفاتيكان سوف يكشف في خلال الأسابيع المقبلة، عن خارطة طريق للتعامل مع قضايا مماثلة، وذلك استناداً إلى خبرات المشاركين في القمّة. وشدّد البابا فرنسيس الأوّل في هذا الإطار على وجوب إصدار تعليمات جديدة واضحة للأساقفة تلزمهم باتخاذ إجراءات حاسمة إزاء الاعتداءات الجنسية في حقّ القصّر.
غضب وصدمة
"في تلك الاعتداءات، نرى يد الشرّ التي تمتدّ ولا توفّر حتى براءة الأطفال". هذا بعض ممّا جاء في الكلمة الختامية للبابا فرنسيس الأوّل الذي أصرّ على توريط "الشيطان" في الاعتداءات الجنسية التي استهدفت القصّر. وهذا أمر لم يرق كثيراً لشبكة "ريتيه لابوزو" الخاصة بالإيطاليين ضحايا تلك الاعتداءات. ونقلت صحيفة "إيل ميسادجيرو" الإيطالية عن المتحدث باسم الشبكة فرانشيسكو زاناردي، قوله إنّ "البابا يجعل الكنيسة الضحية، في حين أنّها هي الجلّاد (المعتدي)". وعبّر زاناردي عن صدمته، هو الذي وقع ضحيّة اعتداء جنسي من قبل أحد القساوسة عندما كان في الحادية عشرة من عمره، مضيفاً للصحيفة أنّ "كلام البابا فرنسيس الأوّل جميل، لكنّه من دون أفعال. لقد انتظرنا شيئاً عملياً عن تطبيق مبدأ تسامح صفر مع المعتدين، وهو ما لم يحدث". ووجّه زاناردي انتقاداته كذلك إلى رجال الدين الذين "غطّوا الاعتداءات الجنسية ولم يمارسوا واجبهم بإبلاغ الشرطة بما جرى والاكتفاء بتحقيق داخلي بين رجال الدين، من دون أيّ عقاب أو إجراءات جدية، بل الاكتفاء بنقل المعتدين إلى رعيّة أخرى".
من جهتها، تنتقد المنظمة العالمية "إندينغ كليرجي أبيوز" التي تهدف إلى إنهاء إساءات رجال الدين ومحاسبتهم، نتائج المؤتمر. وبعد وقفة احتجاجية نفّذتها في روما في 23 فبراير/ شباط الماضي، بالتزامن مع انعقاد القمّة، أصدرت لائحة تتضمّن 21 بنداً، الإثنين الماضي (25 فبراير/ شباط)، بعيد انتهاء القمّة. فطالبت بـ"اعتماد قانون كنسي عالمي، فوراً، ينصّ على شطب كلّ رجل دين يُدان كمعتد جنسي على القصّر، ولو في حالة واحدة، من لوائح الكنيسة". كذلك شدّدت المنظمة على تحميل المسؤولية لكلّ رجل دين يغطّي تلك الجرائم ونزع الصفة الدينية عنه، مع ضرورة الالتزام التام باتفاقية حقوق الطفل واللجوء إلى محاكم الدول فوراً في أيّ قضية تحتمل الشكّ، بهدف محاسبة المعتدين والمتستّرين جنائياً بغضّ النظر عن مركزهم وصفتهم.
وتعليقاً على القمّة، أصدرت آنا باريت دويلي من مجموعة "بيشوب أكاونتبيليتي" (BishopAccountability.org) المختصة بتوثيق الاعتداءات الجنسية في الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة الأميركية، بياناً وصفت فيه كلمة البابا فرنسيس الأوّل بأنّها كانت "صادمة ومخيّبة للآمال". أضافت في بيانها، بحسب ما نقلت صحيفة "ذي واشنطن بوست" وقناة "أي بي سي" الأميركية، أنّ "العالم الكاثوليكي يرغب في تغييرات محدّدة، لكنّهم بدلاً من ذلك خرجوا بوعود فاترة استمعنا إليها مرّات عدّة في السابق".
اغتصاب راهبات
في سياق متّصل، نشرت صحيفة "لوسيرفاتوريه رومانو" الصادرة عن الفاتيكان تقريراً في أوائل فبراير/ شباط الماضي حول ظاهرة "اغتصاب راهبات من قبل رجال دين"، الأمر الذي مثّل صدمة للكنيسة الكاثوليكية جمعاء وعرّضها لانتقادات عنيفة. وتحدّثت الناشطة الإيطالية حول شؤون المرأة والكنيسة، الكاتبة الصحافية لوسيتا سكارفيا، في لقاء مع موقع "لاتين أميريكان بوست"، عن "استعباد جنسي للراهبات"، وهو أمر لم يُسلّط الضوء عليه في خلال السنوات الماضية مثلما حصل مع الاعتداءات الجنسية التي طاولت القصّر. وكشف البابا فرنسيس الأوّل في هذا الإطار، أنّ بابا الفاتيكان السابق، بنديكتوس السادس عشر، أغلق ديراً للراهبات بالكامل على خلفيّة تعرّضهنّ للاغتصاب من قبل رجال دين. وهي المرّة الأولى التي أقرّ فيها البابا فرنسيس الأوّل بجرائم مماثلة، موضحاً أنّ رجال دين أهانوا الراهبات، بينما كانت الكنيسة على علم وتعمل على حلّ المسألة.
"إنّه نفاق"
على الرغم من كل الانتقادات، يرى مهتمون ومراقبون أنّ قمّة الفاتيكان الأخيرة التي ركّزت على "الكارثة" التي تواجه الكنيسة الكاثوليكية هي "خطوة متقدّمة" بالمقارنة مع ما كانت عليه الحال في السابق، عندما كانت تُطمس قضايا الاعتداءات الجنسية. بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ القمّة هدفت إلى "تصحيح الأخطاء في النظام" التي أدّت إلى تكرار تلك الاعتداءات على مدى عقود. في تلك القمّة، استمع رجال الدين المشاركون من كلّ أنحاء العالم إلى شهادات ضحايا، إحداها لامرأة أفريقية تحدّثت عن اغتصابها وضربها وإجبارها على الإجهاض ثلاث مرات. كذلك كانت شهادة لامرأة تشيليّة تحدثت عن كيفية "تغطية الأساقفة على القساوسة المعتدين جنسياً". ووفقاً للصحافة الإيطالية، فقد اعترف الكاردينال الألماني راينهارد ماركس بأنّ "الكنيسة سبق لها أن أتلفت وثائق تثبت وجود اعتداءات جنسية". وممّا اقتبسته الصحافة الاسكندنافية عن ماركس قوله: "بدلاً من وضع حدّ للمعتدين، تمّت ملاحقة الضحايا وأجبروا على التزام الصمت. الكنيسة اضطهدت هؤلاء". وفي السياق، اتهمت راهبة نيجيرية تُدعى فيرونيكا أوبينبو المجتمعين في القمّة بما سمّته "نفاقاً بالصمت ومحاولة للتغطية على الجرائم الجنسية في حقّ القصّر". وتوجّهت إلى البابا بسؤال: "كيف يمكن لأعضاء في الكنيسة أن يصمتوا ويغطّوا تلك الفظائع (...) نحن نقدّم أنفسنا كأمناء على المعايير الأخلاقية والقيم وحسن السلوك (...) مصداقيتنا على المحك. هل هذا نفاق؟ نعم إنّه كذلك".