مع حلول 19 يونيو/ حزيران من كل عام في الجزائر يعود الجدل السياسي والتاريخي حول أول انقلاب عسكري في الجزائر في عام 1965، أي بعد ثلاث سنوات فقط من نيلها استقلالها، حين كانت مجموعة من العسكريين والسياسيين تستعد للإطاحة بالرئيس أحمد بن بلة والاستيلاء على الحكم، في انقلاب سُمّي "تصحيحا ثورياً". ومنذ 53 عاماً ما زال الجدل قائماً بشأن دوافعه وملابساته وتداعياته في علاقة بطبيعة النظام السياسي الذي تأسس عليه والذي تحكمت فيه المؤسسة العسكرية والأمنية في دواليبه. فمنذ الاستقلال عام 1962، كان واضحاً أن أمور الحكم لم تستتب بعد في البلاد لسلطة الرئيس أحمد بن بلة، رغم التحالف الظرفي مع قيادة أركان الجيش الذي كان بقيادة وزير الدفاع هواري بومدين. وكان واضحاً أن مجموعة بومدين الذي أصبح لاحقاً رئيساً حتى وفاته عام 1978، ليست راضية على التوجهات السياسية والقرارات التي اتخذها بن بلة من دون العودة إلى شركائه في الحكم. اعتقد بن بلة أنه مارس صلاحياته السياسية كرئيس، مزهواً بالثقل الدولي الذي استمده من الأثر الأسطوري الكبير الذي أحدثته الثورة الجزائرية ضد فرنسا في العالم والتقدير الكبير الذي باتت تحظى به الجزائر، إذ اتخذ قرارات بإقالة بعض المسؤولين من مناصبهم الحكومية، وكان المسؤول التالي الذي كان بصدد إقالته هو عبد العزيز بوتفليقة الذي كان وزيراً للخارجية حينها. في المقابل، كانت مجموعة بومدين ترغب في أن يكون بن بلة مجرد حاكم تحركه وفق خياراتها. وكانت قد استخدمته كواجهة لتصفية واستبعاد عدد من الرموز الثورية المنافسة على الحكم، كالعقيد محمد شعباني الذي أعدم، ومحمد بوضياف الذي اعتقل ثم هرب إلى المغرب، وحسين آيت أحمد الذي اضطر للتمرد المسلح قبل اعتقاله ثم فراره إلى الخارج.
وصلت الأمور إلى نقطة الصدام في الجزائر، وفي 19 يونيو 1965 انتشرت الدبابات وسط العاصمة وفي المحاور الرئيسية وقرب مقر التلفزيون والمؤسسات الحيوية. لم يفهم الجزائريون الذين كانوا يستعدون للاحتفال بالسنة الثالثة للاستقلال سبب خروج الدبابات من الثكنات، لكنهم اعتقدوا للوهلة الأولى أن الأمر متعلق بتصوير فيلم "معركة الجزائر" الذي كان يجري تصويره في العاصمة في تلك الأيام.
في هذا السياق، قال الكاتب عبد العزيز بوباكير، الذي أصدر كتاباً عن ملابسات هذا الانقلاب، إنه "كان المخرج الإيطالي بونتيكورفو يصوّر فيلم معركة الجزائر. واستفاق سكان العاصمة الجزائرية صبيحة ذلك اليوم، 19 يونيو 1965، على مشهد وجود دبابات في الشوارع، فاعتقدوا أن الأمر متعلق بالسينما، وأن بونتيكورفو يواصل تصوير فيلمه الثوري. لكن الدبابات كانت حقيقية، يقودها سليمان هوفمان، لقمع أي محاولة تمرد واحتجاج من السكان".
كان مقرراً حصول الانقلاب قبل ذلك بيومين، أي في 17 يونيو، وأن يتم اعتقال الرئيس بن بلة في مدينة وهران، غربي الجزائر، من قبل قوات الجيش التي كان يقودها الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في وهران، حيث كان الرئيس بن بلة يتابع مباراة ودية بين المنتخب الجزائري والمنتخب البرازيلي مع نجمه بيليه في ملعب وهران، في إطار زيارة الأخير لدعم البلد المستقل حديثاً. لكن المجموعة المدبرة للانقلاب أجّلت ذلك تجنباً لإثارة جدل دولي بسبب وجود الصحافة الأجنبية المرافقة للمنتخب البرازيلي.
اقــرأ أيضاً
وأشار بوباكير إلى أن "بن بلة الذي رغم أنه كان يستشعر وجود معارضة ضده لدى كتلة في الحكم مرتبطة بوزير الدفاع هواري بومدين، إلا أنه كان يعتقد أن هذه المجموعة التي كانت تدعى مجموعة وجدة، لن تذهب حد تنفيذ انقلاب عليه".
ويقصد بمجموعة وجدة التي تنسب إلى مدينة وجدة المغربية، على الحدود مع الجزائر، والتي كانت تشكل القاعدة الرئيسة لقيادة الجيش والدفاع وجهاز الاستخبارات خلال السنوات الأخيرة من الثورة الجزائرية. وكان بين الفاعلين في هذه المجموعة هواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة وآخرون أدوا دوراً في الحكم في الجزائر وامتد تأثيرهم حتى مرحلة متأخرة.
وفي ليلة 19 يونيو، توجهت مجموعة من الشخصيات، بينهم قائد أركان الجيش لاحقاً الطاهر الزبيري وعبد العزيز بوتفليقة، إلى مقر إقامة بن بلة وسط العاصمة الجزائرية، وطلبوا منه مرافقتهم وأبلغوه بأنه لم يعد رئيساً للبلاد، ثم أودع السجن الذي قبع فيه حتى نهاية عام 1979، حين أطلق الرئيس الشاذلي بن جديد سراحه وغادر البلاد للإقامة في الخارج حتى عودته عام 1989.
لم تحدث أية ردود فعل شعبية أو سياسية لافتة ضد الانقلاب، عدا بعض المواقف التي أبداها مثقفون، مثل المؤرخ محمد حربي، الذي اعتُقل بسبب اعتراضه على الانقلاب ونُفي لاحقاً، فضلاً عن احتجاجات شعبية عدة كانت أعنفها تلك التي شهدتها مدينة عنابة، شرقي الجزائر، حيث خرج السكان والطلاب في تظاهرات صاخبة للاعتراض على الانقلاب وتأييداً لبن بلة، وتعرّض المحتجون لإطلاق نار من قبل قوات الجيش التي كانت بقيادة الجنرال الراحل محمد عطايلية، ما أدى إلى مقتل عدد من المحتجين، ظلّت عائلاتهم تطالب بحقوقهم بعد الانفتاح السياسي الذي شهدته البلاد عام 1989.
لكن حواراً سياسياً ثار حينها بين المجموعة الانقلابية، بحسب بوباكير في كتابه الذي جمع فيه شهادات الفاعلين في هذا الانقلاب حول توصيف وكيفية تسمية الإطاحة ببن بلة واستيلاء مجموعة وزير الدفاع هواري بومدين على السلطة. وكانت أغلب هذه العمليات التي تمت في كثير من الدول تُدعى ثورة أو انقلاباً، وبحسب ما يذكر بعض صانعي هذا الحدث، فإن وزير الشؤون الخارجية حينها عبد العزيز بوتفليقة، هو من اخترع فكرة إطلاق اسم "التصحيح الثوري" على انقلاب 19 يونيو 1965.
خلال تلك الفترة كانت الجزائر الحديثة الاستقلال في طور الاستعداد لاحتضان اجتماع القمة الآفرو آسيوية، وأثار هذا الانقلاب حفيظة دول وزعماء عدة، بينهم جمال عبد الناصر، الذي أوفد فتحي الديب إلى الرئيس بومدين لطلب تسليمه بن بلة للإقامة في مصر، لكن بومدين رفض هذا العرض. وكانت تلك أول أزمة سياسية جزائرية مصرية امتدت لغاية حرب يونيو 1967.
وكما في كل الانقلابات، بسط هواري بومدين يده على الحكم بقوة، وألغى العمل بدستور عام 1963 والبرلمان وأسس مجلس الثورة. وبحسب ما ذكر قائد أركان الجيش حينها الطاهر الزبيري، فإن "الاتفاق بين الانقلابيين كان على أساس العودة إلى الشرعية الدستورية في غضون سنة، لكن بومدين رفض الوفاء بالتعهد السياسي، ما عرّضه لمحاولة اغتيال ثم محاولة انقلاب بعد سنتين من إطاحته ببن بلة، بفعل قيام الزبيري بانقلاب فاشل، ما دفعه إلى الهروب إلى تونس ومنها إلى سويسرا.
وفي فبراير/ شباط 2005، قرر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي كان أحد أبرز أعضاء المجموعة الانقلابية، إلغاء الاحتفال الرسمي بما يعرف بـ"التصحيح الثوري"، وإلغاء التسميات التي أُطلقت على عدد من الملاعب والمرافق والمؤسسات الرياضية والخدمية والصحية. وصدر بيان رسمي بذلك، جاء فيه أن "إلغاء الاحتفالات بالذكرى بداية من عام 2005، يستهدف الأخذ بعين الاعتبار التطور التاريخي والسياسي لبلادنا ومسعى المصالحة الوطنية التي انضم إليها شعبنا تحت قيادة رئيس الجمهورية". وأعاد الاعتبار للرئيس أحمد بن بلة قبل وفاته، وأُقيمت له احتفالية كبيرة في مسقط رأسه في منطقة مغنية بولاية تلمسان، غربي الجزائر، في سياق مصالحة سياسية وتاريخية شملت أيضا إعادة الاعتبار لزعيم الحركة الوطنية التاريخية في الجزائر مصالي حاج.
وفي شهادته التاريخية التي سجلها لقناة "الجزيرة"، أعلن الرئيس أحمد بن بلة صفحه عن الانقلابيين، وتسامحه مع من دبر عملية الإطاحة به، برغم محنة السجن والإقامة الجبرية والأذى الذي تعرض له لنحو عقدين من الزمن، وبرغم ما تأسس عليه من ممارسات سياسية ونظام حكم أتاح للجزائر حالة من الانضباط السياسي والبناء الاقتصادي، لكنه ألغى في المقابل كل فعل ديمقراطي أو حرية للرأي والتعبير والتعددية السياسية والنقابية، وملاحقة المعارضين، والهيمنة على الشأن الثقافي واستبعاد المثقفين الذين لا يوافقون على توجهات الحكم.
لكن أكبر جدل سياسي يعود كل سنة بشأن هذا الانقلاب، يتعلق بأبرز تداعياته، وهو تمكين المؤسسة العسكرية والأمنية من بسط يدها على كافة مناحي الحياة في البلاد، والتحكم في تعيين الرؤساء وتحديد المسارات السياسية، كما حدث في سنوات 1979 و1992 و1999. ومثل مصر وليبيا وأغلب الدول التي تعرّضت لانقلاب عسكري، سعى الانقلابيون إلى إنجاز واجهات سياسية مدنية ليست سوى غطاء لمنظومة الحكم الشولية.
في هذا السياق، قال الكاتب عبد العزيز بوباكير، الذي أصدر كتاباً عن ملابسات هذا الانقلاب، إنه "كان المخرج الإيطالي بونتيكورفو يصوّر فيلم معركة الجزائر. واستفاق سكان العاصمة الجزائرية صبيحة ذلك اليوم، 19 يونيو 1965، على مشهد وجود دبابات في الشوارع، فاعتقدوا أن الأمر متعلق بالسينما، وأن بونتيكورفو يواصل تصوير فيلمه الثوري. لكن الدبابات كانت حقيقية، يقودها سليمان هوفمان، لقمع أي محاولة تمرد واحتجاج من السكان".
كان مقرراً حصول الانقلاب قبل ذلك بيومين، أي في 17 يونيو، وأن يتم اعتقال الرئيس بن بلة في مدينة وهران، غربي الجزائر، من قبل قوات الجيش التي كان يقودها الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في وهران، حيث كان الرئيس بن بلة يتابع مباراة ودية بين المنتخب الجزائري والمنتخب البرازيلي مع نجمه بيليه في ملعب وهران، في إطار زيارة الأخير لدعم البلد المستقل حديثاً. لكن المجموعة المدبرة للانقلاب أجّلت ذلك تجنباً لإثارة جدل دولي بسبب وجود الصحافة الأجنبية المرافقة للمنتخب البرازيلي.
وأشار بوباكير إلى أن "بن بلة الذي رغم أنه كان يستشعر وجود معارضة ضده لدى كتلة في الحكم مرتبطة بوزير الدفاع هواري بومدين، إلا أنه كان يعتقد أن هذه المجموعة التي كانت تدعى مجموعة وجدة، لن تذهب حد تنفيذ انقلاب عليه".
وفي ليلة 19 يونيو، توجهت مجموعة من الشخصيات، بينهم قائد أركان الجيش لاحقاً الطاهر الزبيري وعبد العزيز بوتفليقة، إلى مقر إقامة بن بلة وسط العاصمة الجزائرية، وطلبوا منه مرافقتهم وأبلغوه بأنه لم يعد رئيساً للبلاد، ثم أودع السجن الذي قبع فيه حتى نهاية عام 1979، حين أطلق الرئيس الشاذلي بن جديد سراحه وغادر البلاد للإقامة في الخارج حتى عودته عام 1989.
لم تحدث أية ردود فعل شعبية أو سياسية لافتة ضد الانقلاب، عدا بعض المواقف التي أبداها مثقفون، مثل المؤرخ محمد حربي، الذي اعتُقل بسبب اعتراضه على الانقلاب ونُفي لاحقاً، فضلاً عن احتجاجات شعبية عدة كانت أعنفها تلك التي شهدتها مدينة عنابة، شرقي الجزائر، حيث خرج السكان والطلاب في تظاهرات صاخبة للاعتراض على الانقلاب وتأييداً لبن بلة، وتعرّض المحتجون لإطلاق نار من قبل قوات الجيش التي كانت بقيادة الجنرال الراحل محمد عطايلية، ما أدى إلى مقتل عدد من المحتجين، ظلّت عائلاتهم تطالب بحقوقهم بعد الانفتاح السياسي الذي شهدته البلاد عام 1989.
لكن حواراً سياسياً ثار حينها بين المجموعة الانقلابية، بحسب بوباكير في كتابه الذي جمع فيه شهادات الفاعلين في هذا الانقلاب حول توصيف وكيفية تسمية الإطاحة ببن بلة واستيلاء مجموعة وزير الدفاع هواري بومدين على السلطة. وكانت أغلب هذه العمليات التي تمت في كثير من الدول تُدعى ثورة أو انقلاباً، وبحسب ما يذكر بعض صانعي هذا الحدث، فإن وزير الشؤون الخارجية حينها عبد العزيز بوتفليقة، هو من اخترع فكرة إطلاق اسم "التصحيح الثوري" على انقلاب 19 يونيو 1965.
وكما في كل الانقلابات، بسط هواري بومدين يده على الحكم بقوة، وألغى العمل بدستور عام 1963 والبرلمان وأسس مجلس الثورة. وبحسب ما ذكر قائد أركان الجيش حينها الطاهر الزبيري، فإن "الاتفاق بين الانقلابيين كان على أساس العودة إلى الشرعية الدستورية في غضون سنة، لكن بومدين رفض الوفاء بالتعهد السياسي، ما عرّضه لمحاولة اغتيال ثم محاولة انقلاب بعد سنتين من إطاحته ببن بلة، بفعل قيام الزبيري بانقلاب فاشل، ما دفعه إلى الهروب إلى تونس ومنها إلى سويسرا.
وفي فبراير/ شباط 2005، قرر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي كان أحد أبرز أعضاء المجموعة الانقلابية، إلغاء الاحتفال الرسمي بما يعرف بـ"التصحيح الثوري"، وإلغاء التسميات التي أُطلقت على عدد من الملاعب والمرافق والمؤسسات الرياضية والخدمية والصحية. وصدر بيان رسمي بذلك، جاء فيه أن "إلغاء الاحتفالات بالذكرى بداية من عام 2005، يستهدف الأخذ بعين الاعتبار التطور التاريخي والسياسي لبلادنا ومسعى المصالحة الوطنية التي انضم إليها شعبنا تحت قيادة رئيس الجمهورية". وأعاد الاعتبار للرئيس أحمد بن بلة قبل وفاته، وأُقيمت له احتفالية كبيرة في مسقط رأسه في منطقة مغنية بولاية تلمسان، غربي الجزائر، في سياق مصالحة سياسية وتاريخية شملت أيضا إعادة الاعتبار لزعيم الحركة الوطنية التاريخية في الجزائر مصالي حاج.
وفي شهادته التاريخية التي سجلها لقناة "الجزيرة"، أعلن الرئيس أحمد بن بلة صفحه عن الانقلابيين، وتسامحه مع من دبر عملية الإطاحة به، برغم محنة السجن والإقامة الجبرية والأذى الذي تعرض له لنحو عقدين من الزمن، وبرغم ما تأسس عليه من ممارسات سياسية ونظام حكم أتاح للجزائر حالة من الانضباط السياسي والبناء الاقتصادي، لكنه ألغى في المقابل كل فعل ديمقراطي أو حرية للرأي والتعبير والتعددية السياسية والنقابية، وملاحقة المعارضين، والهيمنة على الشأن الثقافي واستبعاد المثقفين الذين لا يوافقون على توجهات الحكم.
لكن أكبر جدل سياسي يعود كل سنة بشأن هذا الانقلاب، يتعلق بأبرز تداعياته، وهو تمكين المؤسسة العسكرية والأمنية من بسط يدها على كافة مناحي الحياة في البلاد، والتحكم في تعيين الرؤساء وتحديد المسارات السياسية، كما حدث في سنوات 1979 و1992 و1999. ومثل مصر وليبيا وأغلب الدول التي تعرّضت لانقلاب عسكري، سعى الانقلابيون إلى إنجاز واجهات سياسية مدنية ليست سوى غطاء لمنظومة الحكم الشولية.