وصل عدد حالات الانتحار ومحاولاته في غزة إلى أرقام ملحوظة، لأسباب عدة، من بينها معيشي، ما فتح الجدال حول تلك الأسباب بالذات، وغياب الخطط الوقائية
شغل انتحار الشاب سليمان العجوري (23 عاماً) من شمال قطاع غزة الفلسطيني المحاصر، الرأي العام في القطاع، باعتباره واحداً من منظمي حراك "بدنا نعيش" في مارس/ آذار 2019، وهو الحراك المطالب بتحسين الظروف المعيشية للشباب في قطاع غزة. لم تكن حالة العجوري الوحيدة، بل إنّ شابين آخرين انتحرا، ليصبح العدد ثلاثة في يوم واحد.
ورصدت مؤسسات حقوق الإنسان ومركز الإحصاء الفلسطيني وقائع ومحاولات انتحار متزايدة في قطاع غزة في السنوات الأخيرة. إذ شهد عام 2015 عشر حالات انتحار، و553 محاولة، أما عام 2016 فشهد 16 حالة انتحار، و626 محاولة، وعام 2017 وقعت 23 حالة انتحار و566 محاولة. أما عام 2018، فقد سُجلت فيه 20 حالة انتحار، و504 محاولات، ليرتفع الرقم مجدداً عام 2019 إلى 22 حالة انتحار، و133 محاولة.
تؤكد الاختصاصية النفسية، نرمين حمد، أنّ الآلاف من الغزيين فكروا في الانتحار، كذلك فإنّ محاولات الانتحار كبيرة جداً، علماً أنّها هي نفسها تولت علاج عشرات حالات الشروع بالانتحار خلال الأعوام الأربعة الماضية. تقول حمد لـ"العربي الجديد": "غزة بيئة تتوافر فيها دوافع الانتحار، وهناك حالات توجهت للانتحار، لكونها واجهت حالات اكتئاب حاد، وبعضها اغتراب نفسي، وآخرون لا يملكون أيّ بوادر أمل لتحسين أحوالهم، لذا أقبلوا على الانتحار، إلى جانب مشاكل الفشل وعدم الاستقرار وتحسّن الظروف النفسية أو عدم النجاح في العلاقات العاطفية والزواج".
ويرى البعض أن الإقدام على الانتحار له ما يبرره، بالرغم من إيمانهم بأنّه من الناحية الشرعية حرام، مثل الداعية الديني ومدير المعاهد الأزهرية السابق في فلسطين، عماد حمتو، الذي قال لـ"العربي الجديد"، مفسراً هذه الظاهرة، إن "الاستبداد السياسي أيضاً حرام وتكميم الأفواه حرام، ومن السهل أن نشخّص قضية الانتحار لشاب يرمي نفسه من أعلى بناية أو يشرب السم، لكن ماذا سنقول عن الذين يغرقون في البحر من أجل الهجرة؟ وعن الانتحار المجتمعي لمئات الآلاف من العاطلين من العمل؟ وعن أعداد المرضى بأمراض خطيرة؟". يتساءل حمتو: "كيف نريد أن نعالج الانتحار في دولة ليست فيها وزارة ثقافة تعمل على أرض الواقع، وليس فيها مجلس تشريعي، ولا راتب كامل للموظفين منذ سنين، ولا معابر أو مطار، ومجتمعنا تعتمد غالبيته على المساعدات الخارجية. علينا أن نصارح أنفسنا بهذه الحقائق الخطيرة".
من جهتها، نشرت الهيئة الفلسطينية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني "حشد" دراسة بعنوان "الانتحار في غزة إلى أين؟" في الخامس من يوليو/ تموز الجاري، للباحثة الحقوقية، رنا هديب، ذكرت فيها أنّ أكثر من 210 آلاف مواطن غزي يعيشون اضطرابات نفسية ما بين وخيمة ومتوسطة. وبحسب الإحصاءات التحليلية المرافقة الصادرة عن إدارة البحوث والتخطيط في الشرطة، فإنّ نسبة حالات الانتحار من فئة غير المتزوجين من كلا الجنسين، هي 67 في المائة. وأشارت الدراسة إلى تقرير من إدارة حماية الأسرة والأحداث التي عملت على تسجيل حالات الانتحار، وفيه أنّ نسبة 40 في المائة أسبابها نفسية، و32 في المائة نتيجة خلافات عائلية، و12 في المائة أسبابها اقتصادية ومالية، و4 في المائة أسبابها عاطفية، و4 في المائة بسبب الابتزاز.
تعلّق هديب لـ"العربي الجديد"، قائلة: "على الرغم من خطورة المشهد الذي يكشف القهر الذي يعيشه شباب غزة، وفي ظل استمرار حالات الانتحار، ليست هناك استراتيجية وطنية تلامس أرض الواقع لحلّ المشكلة، بالرغم من الإعلانات المتكررة من قبل الوزارات وأصحاب الشأن، إذ أعلنت وزارة الصحة في أواخر العام الماضي وضع مسوَّدة خطة وطنية بالشراكة مع مؤسسات أخرى للوقاية من الانتحار. لكنّ الواقع يشهد على ضعف هذه السياسات وعدم كفايتها، في ظل استمرار الانتحار ومسبباته".
أحد الذين حاولوا الانتحار في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، محمد (32 عاماً)، تمكنت أسرته من إفشال محاولته التي تناول فيها عقاقير لضغط الدم. يقول لـ"العربي الجديد": "خسرت عملي في التجارة في فبراير/ شباط 2019، وتراكمت عليّ ديون بأكثر من عشرين ألف دولار، مع مشاكل عائلية، علماً أنّني غير متزوج. أحسست بأنّ كلّ أبواب الأمل سدّت في وجهي، وابتعد أصدقائي عني، وخسرت 20 كيلوغراماً من وزني، بالإضافة إلى استمرار القصف الإسرائيلي شهرياً في ذلك الحين. كنت أتمنى أن أموت، لكنّني استيقظت وعلى فمي كمامة أوكسجين".
وبينما ينصّ قانون العقوبات الفلسطيني على أنّ كلّ من حاول الانتحار يرتكب جنحة، فقد تعاطفت الشرطة مع محمد، بكفالة من أفراد أسرته وتعهدهم بمراقبته والبقاء إلى جانبه لمنعه من الانتحار. يشعر بأنّه نادم على تلك الخطوة، ويضيف: "للأسف، إنّ فشل تجربتي أعاد حياتي نفسها من جديد، لكنّ أمي وأبي وأشقائي يساندونني أكثر، وبالرغم من ذلك، أشعر بضيق نفسي كلما سمعت عن انتحار وأتذكر تجربتي".