جدار برلين السوري

21 يناير 2016
مشهد من فيلم حياة الآخرين (مواقع التواصل)
+ الخط -
يبدأ فيلم "حياة الآخرين"، بدراسة حالة مراقبة واستجواب الكتّاب والنشطاء المنتقدين للحكومة في برلين الشرقية، حيث جامعة عسكرية يهمّ فيها الطلاب والأستاذ بتفكيك تسجيلات صوتية قادمة من غرف تحقيق وتعذيب خاصة بجهاز الأمن القومي، شيء ما يستدرج ضابطاً في الاستخبارات إلى تتبّع ومراقبة حياة كاتب ألماني، يعيش في الجزء الشرقي من جدار برلين الذي تحوّل في حالة سقوطه بعد عام 1989 إلى كائن سحريّ، نشاهده ونتلمّسه في عناصر كثيرة حتّى اللحظة هذه. الجدار الذي دام لعقود كثيرة لم يسقط - باطنيّاً - في برلين بل إنه تحوّل إلى سمة عامة، مركونة داخل نفسيات البشر والأبنية والقوانين وحركة المواصلات ونظام الأبنية، سكونٌ قاتل يغمر الجزء الشرقي من برلين، على خلاف الهدوء في ألمانيا عامة، بتصوري، سكونٌ هو سليل ريبة ما استسكنت حتى ذاكرة الحجر هنا، أبنية الجهة الشرقية شاهقة ومكدّسة بشقق سكنية قابضة على حركات الناس وأنفاسهم، أبنية شبيهة بمعسكرات لا مرئية، تؤثر بطريقة مرئية على حياة وممارسات ونفسيات القاطنين في الجهة التي كانت شرق جدار برلين حتى اللحظة.


تحوّل الرقيب، بعد سقوط الجدار، من حالة وظيفية اسخبارية إلى حالة اجتماعية صارمة، ذاك الهدوء السحري المريب الذي يتغلغل إلى باطنك؛ إذ تشعر بطريقة ما أن جارك هو رجل استخبارات، يترصّد كل حياتك ويوثقك إلى قوانين مجهولة تؤدي بدورها إلى تقنين حريتك الشخصية في بيتك حتى، حركة بسيطة في بيتك تدفع بالجيران إلى تنبيهك عبر طرْقات على أحد جدران بيتك أو سقفه أو أرضيته، كأنّ الصوت جريمة في تلك الأبنية التي يبدو الناس، حتى في وسائل مواصلاتهم، ساكنين وعابسين، كأنّهم أسرى معسكرات لامرئية.

إذن، لم يسقط الجدار فعلياً في برلين. في مشهد داخل الفيلم يضطر أحد النشطاء إلى كتابة بعض المعلومات والحوارات داخل بيته، ليقرأها بطل الفيلم - الكاتب الذي شغل ضباط استخبارات برلين الشرقية طوال الفيلم، يهمس الناشط للكاتب: "بيتي غير عازل للصوت".

ويشير بيده نحو سقف بيته، إشارة إلى أن ثمة من يترصّد صوته وهواجسه داخل بيته، تلك الإشارة بقيت حتى اللحظة رفيقة برلين الشرقية، الإشارة إلى الجيران الذين يلعبون دور الاستخبارات على بعضهم البعض، يقتلون الصوت والحركة لدى بعضهم البعض، لماذا تحوّل الصوت إلى جريمة؟

توجّسُ الاستخبارات بالصوت، في الدول الاستخباراتية، هو نتاج فكرة استخلاص الشعوب من حالة النطق الموثوقة بطريقة مباشرة بالانتفاض على القمع واستدراج الحرية صوب نفس الكائن.

كنّا في سورية أسرى وعبيداً للصوت، إلى الحد الذي تحوّلت فيه جملة "للجدران آذان" إلى شعار السوريين في حقبة حكم آل الأسد وحزب البعث على جوهر السوريين - أسرى اللسان، كانت السلطة السورية تتحكّم حتى بالأغاني في الأماكن العامة والشوارع، كانت تتحكّم بذاكرة الناس المستقبلية الجمعية عبر أصوات تختارها هي وتفرضها علينا؛ إلى أن تحوّلت أصوات بعض المطربين والمسؤولين الحكوميين، وصوت (حافظ الأسد وبشّاره)، إلى النوتة التي استحوذت على أذهاننا، الأمر الذي كان يجعلني أستمع سرّاً إلى المغنية اللبنانية (ماجدة الرومي) أثناء تأديتي للخدمة الإلزامية (العسكرية) في سورية، نتيجة مواقف المغنية تلك تجاه وجود الجيش السوري في لبنان، لم تنتهِ علاقتنا المريبة مع الصوت إلى حدود واقعية بل استحوذت على أذهاننا عبر خيالات واسعة أشغلتنا في سورية ولعقود، أتذكّر كلام أبي لنا دائماً: "رجال الاستخبارات يزرعون أجهزة التنصّت تحت الأرض وفي البيادر والسهول"، هي إشارة عاطفية منه فلا نتطرق إلى السياسة المعارضة لنظام الأسد في سورية، رغم أنني كنت أسمع كثيراً نقاشات أبي خفيةً مع بعض الأصدقاء آنذاك عن (إيران وحزب الله وحزب البعث)، تحوّل هاجسنا بالصوت إلى سيناريوهات سريالية، نتفنّن بها ونأخذها إلى أقصى حدود الخيال كي نمرّن بعضنا البعض على ضرورة الخوف من النظام؛ كي نحمي حياة بعضنا البعض، خوفنا على حيوات بعضنا البعض طيلة تلك العقود كان ذا علاقة مباشرة بصبرنا على الاستبداد طويلاً، تحوّلَ الحب إلى معادلة أخرى قابضة على أنفاسنا المتدحرجة في أزقة القمع السورية آنذاك، سيطر حبنا لبعضنا البعض على رغباتنا في الانتفاض ضد عبودية الصوت داخل سورية، بدأت الثورة إذ تعرّض حب السوريين إلى الخطر، حبهم وخوفهم على نسلهم متمثلاً بأطفال درعا الذين تحوّلوا إلى رموز نفسية استسكنت وجدان غالبية السوريين الذين ضغطوا على أركان أحبتهم عبر الأطفال هؤلاء (الرموز).

الفيلم الألماني "حياة الآخرين" أنتج عام 2006 للمخرج الذي كتب السيناريو بنفسه (فلوريان هنكل فون دونرسمارك) وبطولة (أولريك إيمهي، مارتينا جيدك، سيباستيان كوخ)، يتحدث عن الرقابة الاستخباراتية، من قبل أجهزة الأمن القومي في برلين الشرقية، على نشطاء وكتّاب ناهضوا الحكومة في ذلك الزمن، وذلك عبر نقاشات وأنشطة ثقافية ومسرحية لهم، هذه الأنشطة دفعت بجهاز الاستخبارات إلى التنصت على الكاتب المسرحي في الفيلم، من خلال زرع أجهزة التنصّت في بيته وتوظيف شخصين لمراقبة ورصد الأصوات داخل بيته، زرعت أجهزة التنصت في كل مكان داخل البيت، كلام أحد المتنصتين من الاستخبارات "حتى طريقة ممارسة الجنس عند الفنانين هي مختلفة"، كان إشارة إلى أن التنصت محكم بقبضته حتى على الحياة الجنسية لدى الكاتب وزوجته الممثلة، والتي تحوّلت إلى أسيرة التحرش الجنسي من قبل وزير الثقافة في حكومة برلين الشرقية، الوزير الذي استحوذ على جسدها مرة كل أسبوع عبر تهديدها بالتخلص من زوجها الكاتب.

تلك المواظبة على مراقبة أدق تفاصيل حياة الكاتب من خلال "المسامرة" خلقت حالة ألفة لدى الضابط الذي يتنصت عليهم، ما دفعه إلى التخلّص من الموظف - شريك وظيفته، عبر طرده ليستفرد في تلك المراقبة ويتحكّم بكتابة التقارير التي حمت الكاتب من دخول السجن إثر تزييفها وإخفاء تفاصيل كانت كفيلة بزجه في السجن بل حتى بإعدامه، إثر مقالة للكاتب كان يحقق فيها في حالات انتحار الكتّاب المقموعين في برلين الشرقية، المقالة التي فضحت جوهر الحكومة القمعية الاشتراكية هناك.

إشارات لامتناهية داخل الفيلم كانت رموزاً لامتناهية لفك شيفرة البعد النفسي لدى الناس هناك وتحليله؛ إذ يعود الضابط المتنصت إلى بيته، ويمارس الجنس مع امرأة تعمل في الدعارة ويطلب منها بقاءها الليلة معه؛ إذ استحوذت رغبة الحب والحياة الطبيعية مع امرأة على روحه، تأثّر الضابط بحياة الكاتب بعد أن انخرط فيها وعايشها من خلال التنصت على الأصوات داخل بيته. إذن، الغربة ما بين رجال الاستخبارات وعامة الشعب، وعدم الانخراط في حيوات الناس الطبيعية، هي التي تخلق الشرخ ما بينهم وبين إنسانيتهم، تواظب قيادات الدول القمعية على عملية عدم تأثر رجال الاستخبارات بعامة الناس، عبر تدريبهم على التخلص من كتلة العاطفة داخل أرواحهم. يتجلى الأمر واضحاً عبر فيديوهات وممارسات تخص الثورة السورية؛ إذ يدفع ضباط الجيش والمليشيات المتطرفة بعضهم البعض بالتحفيز على قتل وتعذيب السوري بكافة الوسائل التي تجرد القامع من إنسانيته الموجودة في عيون المقموع الثائر. تاريخياً دُرّستْ هذه المعادلة في علم نفس أنظمة قمعية استخباراتية للعالم أجمع، وتجسدت في التحفيز الدائم من القائد للجندي على قتل الضحية بنفسه؛ إذ يناوله المسدس، هو تمرين لئيم حقير يدرّب به القائد جنوده فيتمرنوا على التجرد من مَواطن الإنسانية لدى الجنود.

إذن، دخول ضابط الاستخبارات إلى الحياة النفسية للكاتب كان عبر مشاركة طويلة لحياة نفسية تامة، حياة جعلته معزولاً لأشهر يواظب خلالها على التنصت وحسب، التنصت، أي مشاركة المقموع حياته الإنسانية البسيطة، كما لو أنك تتابع فيلماً تتأثر خلاله بشخصيات داخل الفيلم. كان التنصت وكتابة التقارير المزيفة أيضاً رمزاً آخر خلال الفيلم، الرمز الذي حول الضابط نفسياً، بتصوّري، إلى روائي يترصّد حيوات شخصياته ويكتبها إلى أن يتعلق فؤاده بها.

تحول الضابط المتنصت على حياة الكاتب إلى مريده، يقرأ كتبه، يساهم بطريقة ما في حماية حياته. إثر مشهد داخل الفيلم، إذ دخل خفية إلى بيت الكاتب وقام بأخذ الآلة الكاتبة، التي جيء بها للكاتب سرّاً من ألمانيا الغربية، الآلة المخفية كانت تحت قطعة خشب أسفل باب غرفة الجلوس، أخرجها من بيت الكاتب قبل لحظات من وصول رجال الاستخبارات بغية مداهمة البيت والحصول على دليل إدانة الكاتب من خلال الآلة الكاتبة تلك.

"حياة الآخرين" - تلك الحقبة - في برلين الشرقية، هي ذاتها حياة السوريين في الحقبة هذه، وحياة ملايين الناس الشرق أوسطيين، في حقب متتالية قادمة.

(سورية)
المساهمون