هذا الحوار أجرته صحيفة لوموند الفرنسية مع المُخرِج جان-لوك غودار في باريس، يوم الثلاثاء 27 مايو/ أيّار 2014، وقد استمرّ لساعتين، وهو حوار نادر لغودار.
لوموند: كيف تحلّل المشهد الجاري حاليًا في أوروبا؟ لربّما تحب أن تدلي بدلوك في هذا الأمر؟
جان-لوك غودار: نعم، لديّ رأيي في هذا الأمر. كُنت آمل أن تصل "الجبهة الوطنية Front National" إلى سدّة الحكم.
أرى أنه يجب على فرنسوا هولاند تعيين مارين لوبان رئيسة وزراء، وسبق أن قلتُ ذلك في "فرانس إنتر France Inter"، ولكنهم حذفوا كلامي.
لوموند: وما أسبابك؟
جان-لوك غودار: كي تتحرّك الأمور قليلًا. كي نتظاهر بأننا نتحرّك إذا لم نكن نتحرك بالفعل، وهو أفضل من أن نتظاهر بأننا لا نفعل شيئًا (ضحكات). بالإضافة إلى ذلك، ننسى دائمًا أن الجبهة الوطنية كان لديها مقعدان في المجلس الوطني للمقاومة. في ذلك الوقت، كانت الجبهة منظمة شبه شيوعية. ومع ذلك، فقد كانت تُسَمّى الجبهة الوطنية.
لوموند: إنه مجرّد ترادف
جان-لوك غودار: لا، إذا قلت إن الأمر ليس سوى ترادف، فسنظل في دائرة الكلمات، وليس في دائرة الوقائع. إنها واقعة. ونظرًا لأهمية التسمية، وأن تُعطي اسمًا، فذلك بلا شك ترادف. يُدعى رئيس وزراء لوكسومبورغ يونكر Juncker؛ وذلك كان أيضًا اسم طائرة حربية ألمانية (يونكرز Junkers).
لوموند: "يونكر Junker" هو أيضًا اسم الأرستقراطيين الأثرياء في بروسيا...
جان-لوك غودار: نعم إنهم إقطاعيو ألمانيا في ذلك الوقت. يبدو أنك مهتم بعلم اللغة. لا أدري إذا كنت سمعت بفيلم ميشيل غوندري Michel Gondry الرائع، وهو محادثة مع نوام تشومسكي Noam Chomsky. إنه عمل رائع.
لوموند: ماذا تعكس كل هذه الأصوات الانتخابية في كل مكان تقريبًا، في فرنسا، والمملكة المتحدة، والدنمارك؟
جان-لوك غودار: إنها تعكس حالتي أنا. لست أقف في صفهم. منذ زمنِ طويل، طالب جان-ماري لوبان بإبعادي خارج فرنسا، وكنتُ أرغب بأن تتحرّك الأمور قليلًا. إن أكبر الرابحين هم من يمتنعون عن التصويت، وأنا أحدهم منذ وقتِ بعيد.
لوموند: لماذا هناك هذا العجز عن التحرّك؟
جان-لوك غودار: لأنهم إما كبار في السن للغاية وإما شباب للغاية، هكذا هو الأمر. انظر إلى تلك الجائزة التي حصلت عليها، أنا وَ"زافييه دولان Xavier Dolan" –الذي لا أعرفه- في مهرجان "كانّ Cannes". لقد جمعوا مُخرِجًا عجوزًا أخرَج فيلمًا "شابّا" بمُخرِج شاب أخرَج فيلمًا قديمًا، حتى أن فيلمه أخذ شكل الأفلام القديمة، أو على الأقل هذا ما سمعته.
لوموند: لماذا لا يتحرّكون؟
جان-لوك غودار: منذ زمنِ طويل، تعلّمتُ أنه يمكننا تغيير الأمور في مكان واحد فقط؛ الطريقة التي نصنع بها الأفلام، أي السينما. إنه عالم صغير، ولا يتعلق الأمر بفرد وحده، بل بخلية مجتمعية حيّة. مثل هذه الخلية الشهيرة التي تخدم العالم بأسره: البكتيريا.
لوموند: إنها "الإشريكية القولونية"...
جان-لوك غودار: بالضبط. وإذا ما جعلنا من الأمر استعارةً سوسيولوجية (لا أحب كلمة مجتمعي)، فسنجد أولًا ولادة الفيلم، ثم فترة مراهقته، ثم موته. يستغرق الأمر من ثلاثة إلى أربعة أشهر، ويتطلب مئة شخص على أكثر تقدير بالنسبة لفيلم ذي إنتاج ضخم، أما بالنسبة لي، فلا أحتاج سوى إلى ثلاثة. ونظرًا لقلة عدد الأفراد، فذلك هو المكان الوحيد الذي يمكننا فيه على الأقل تغيير طريقة عيش هذا المجتمع الصغير. لا، ليس تمامًا.
لوموند: بلى، والدليل أنت
جان-لوك غودار: أنا فرد، وهذا الأمر نادر جدًا. ومع ذلك فالفرد غير كافِ. السينما هي المكان الوحيد الذي تستطيع فيه مجموعة أفراد مكوّنة من 15، 20، أو 100 شخص أن تقوم بعملها بطريقة مختلفة...
لوموند: إنها خلية غودار
جان-لوك غودار: لا، ليس هناك خلية غودار. هناك دومًا رغبة في أن تأتي مجموعة صغيرة وتغيّر الأمور. وتلك كانت لحظة قصيرة: الموجة الفرنسية الجديدة. لقد كانت لحظة ضئيلة للغاية. وإذا كنتُ أشعر ببعض النوستالجيا، فإنني أشعربها إزاء هذه الفترة. ثلاثة أشخاص: فرنسوا تروفو، وأنا، وجاك ريفيت. والأكبر سنًّا: إريك رومِر، وبيير ملفيل، وروجيه لينهارت Roger Leenhardt. ثلاثة فتيان تركوا عائلاتهم: ريفيت، على شاكلة فريدريك مورو Frédéric Moreau، جاء من مدينة روَن Rouen، أمّا فرنسوا [تروفو] وأنا، فقد كُنّا نبحث عن عائلة أخرى غير عائلاتينا.
لوموند: هل كنتم تشعرون بأن هناك ما هو مشترك بين ثلاثتكم؟ وهل استطعتم تسميته؟
جان-لوك غودار: لا، والأفضل أننا لم نسمّه.
لوموند: هذا أمر يُحَسّ ولكن لا يُفصَح عنه...
جان-لوك غودار: لقد تأثر كل منّا، بشكل أو بآخر، بعائلته؛ فأنا تأثّرت بالأدب، وأظن أن ذلك بسبب أمي التي كانت تقرأ كثيرًا وتسمح لي بالتنقيب في مكتبتها. تأثّرتُ برواية "ذهب مع الريح" التي كانت رواية خطيرة للغاية. وأتذكر أنه عند جدتي، في فرنسا، تأثّرتُ بأعمال موباسان Maupassant، لأنه كانت هناك صور لنساء عاريات كانت تعلّق فوق المكتبة.
قرأتُ دوريات مثل "فونتِن Fontaine"، و"شِعر 84 Poésie 84"، ولكُتّابِ مثل آندري دوتِل André Dhotel (إنه روائي جيد)، وَلوي جييو Louis Guilloux وروايته الدم الأسود، وأشياء من هذا القبيل.
وحتى لو كنا نختلف حول العديد من الأشياء، فكنا نتفق حول أمرين أو ثلاثة. كنا نطمح إلى نشر الرواية الأولى عند الناشر "غاليمار Gallimard". وهو ما قام به شيرير (أي إريك رومر) عندما نشر روايته الأولى.
لوموند: ثم أردتم أنتم الثلاثة اكتشاف سينما أميركية ما، أليس كذلك؟
جان-لوك غودار: أدركنا أن هناك أيضًا جانبا رأسماليا كان يقف ضد بعض المخرجين الذين أحببنا أعمالهم. دون سيغل Don Siegel، وَإدغار جورج أولمر Ulmer، وآخرون، كانوا يصنعون أفلامهم في أربعة أيام، وهي أفلام نجد فيها أشياء لا نجدها عند غيرهم. لقد لاقوا دعمًا، وأُثنيَ عليهم، وكانت هناك مبالغة في ذلك، في وقتِ كانوا فيه مَلفوظين. كانت تلك فترة اتفاقات بلوم-بيرنس Blum-Byrnes.
في ذلك الوقت، كان ريفيت وفرنسوا [تروفو] أكثر حماسةً واتقادًا مني. كُنتُ أكثر حذرًا، أكثر كسلًا. في هذه الأجواء الشبيهة بمغارة علي بابا لـ "هنري لانغلوا Langlois"، كان هناك عالم يمكن أن يكون لنا نحن، بما أنه لم يكن لأحد.
لوموند: وما سر شغفك برياضة التنس؟
جان-لوك غودار: مارستها وأنا صغير. ثم توقفتُ عندما أتيتُ إلى باريس في 1946-1947. ثم عدتُ أمارسها شيئًا فشيئًا بعد ذلك، واضعًا في اعتباري أن ملعب التنس هو المكان الوحيد الذي فيه يُعيد أحدهم الكرة لي (في الألعاب الأخرى لم يُعيدوا الكرة لي، أو يلعبوا بها، ولكنهم لا يُعيدونها لي)، حتى في التحليل النفسي (ضحكات).
لوموند: كان سِرج داني يقول إنك السينمائي الوحيد الذي كان يعيد الكرة مرةً أخرى (أيّ يتجاذب أطراف الحديث) في أثناء المؤتمرات الصحافية، ما رأيك؟
جان-لوك غودار: نعم، نعم، كنتُ أتحمل السخافات التي قد تقولها صحافية، من كوريا الجنوبية أو غيرها. بالمناسبة، يمكن تغيير الأمور قليلًا في كرة القدم. ولكن اللاعبين لا يملكون الأدوات الفكرية، والثقافية. لا يلعبون سوى بأقدامهم. بينما في خلية السينما الصغيرة، هناك كل شيء: الأدوات، الثقافة، المال، الحب، الإبداع الفني، الاقتصاد، إلخ.
يقول الناس عادةً "السينما"، ولكنهم يريدون قول "الأفلام". دعني أقول لك إن السينما شيء آخر. هناك حكاية بشأن سيزان Cézanne ولا أدري إن كانت صحيحة أم لا. يُقال إنه كان يرسم للمرة المئة "جبل سان فيكتوار"، ثم مرّ أحدهم وقال له : "ما أروع جبلك"! فردّ عليه سيزان : "اغرب عن وجهي، أنا لا أرسم جبلًا، أنا أرسم لوحةً".
لوموند: في فيلمك "وداعًا اللغة"، هناك لحظة نرى فيها علبة ألوان، ألوان مائية، فهل لنا أن نستنتج من ذلك أن الرسم، بالنسبة لك، هو إحدى آخر اللغات الموجودة؟
جان-لوك غودار: فعلتُ ذلك على أمل أن يفكّر أحد، من تلقاء نفسه، في أنه يوجد هناك شخص لديه محبرة وَحبر (اللون الأسود، والطباعة)، ثم هناك من الجانب الآخر علبة ألوان. كنت آملُ أن يفكّر أحد أن أمامه النص من ناحية، والصورة من الناحية الأخرى.
الآن، إذا لم يكن هناك سوانا، أنت وأنا، كنتُ لآخذ علبة الألوان، وسأترك لك المحبرة. يسألني الناس ماذا يعني ذلك؟ أنا أصوّرُ واقعة.
لوموند: في "دفاتر السينما Cahiers du cinéma" سألت روبير بريسون Bresson حول أهمية الشكل. أول ما قاله لك كان: "أنا رسّام".
جان-لوك غودار: كان رسامًا، هذا صحيح. ولكني لم أرَ أيًا من رسوماته.
لوموند: هل تتفق معه إذن حول إيلاء الأولوية للشكل؟
جان-لوك غودار: لا، هناك تناوب. أحب استخدام صورة الغطس ثم العودة إلى السطح. ننطلق من السطح ثم نغوص في الأعماق، ثم نعاود الصعود. هذا هو الأمر. لقد كتب بريسون كُتيّبًا، وهو رائع للغاية، باسم "ملاحظات حول السينماتوغراف"، يقول فيه "احرص على استنفاد كل ما يصدر عن اللاحركة والصمت". اليوم، لستُ متأكدًا حتى من أننا فعلنا ذلك (ضحكات).
لوموند: قد اعتقد موريس بيالا Pialat أيضًا أنه سيصير رسّامًا
جان-لوك غودار: إن فيلمه "فون جوغ Van Gogh" رائع جدًا جدًا. إنه الفيلم الوحيد الذي كان يُمكن صناعته حول الفن. لا أحب كل صفاته، كما أنه كان صعب المراس. وعادةً عندما يحاول السينمائيون تصوير الرسّامين، تكون النتيجة كارثية.
لوموند: هل يعتريك ندمُ لغيابك عن مهرجان كانّ؟
جان-لوك غودار: لا يوجد ندم.
لوموند: هل للمهرجانات أيّة أهمية؟
جان-لوك غودار: إنها لا يجب أن تكون بمثل هذا الشكل. إنها لا تزال أماكن يمكننا فِعل الأمور فيها بشكل آخر.
لوموند: كيف؟
جان-لوك غودار: لا أدري. يمكن أن تكون مداولات لجنة التحكيم علنية وليست سرية كما هو الحال. وأن لا تُعرَض الأفلام في قاعة واحدة فقط. لاحظ الصلة بين العرض وطريقة الحُكم. فكرة "المنقذ الأعلى" تلك.
لوموند: هل تقصد أن البنية فائقة التراتبية (الهيراركية) لمهرجان كانّ إنما تُحاكي المجتمع الفرنسي؟
جان-لوك غودار: إنه تاريخ الطبيعة والمجاز. المجاز ليس مجرّد استنساخ، أو صورة، إنه أمر آخر.
لوموند: قد يكون مثلًا أشدّ استفحالًا؟
جان-لوك غودار: لا أدري. لا يمكننا استبدال كلمة بأخرى. فكلمة (parole= الكلام) في الفرنسية لا توجد في لغاتِ أخرى. نادمُ أنا على جهلي بمزيد من اللغات، ولكن لهذا السبب، يجب السفر. ولكن لا يجب أن تسافر وأنت صغير للغاية، ثم بعد ذلك، تجد أن الوقت قد مرّ، الأمر صعب.
ولكن كلمة parole مثلًا لا توجد لا في الألمانية ولا في الإنكليزية. لا أعرف هل هي موجودة أم لا في الصينية والفنلندية والهنغارية. كم أحب معرفة ذلك. يقول الألمان sprechen، التي تُتَرجَم إلى "لسان Langue". ولكن اللسان يختلف عن الكلام، الذي بدوره يختلف عن "الصوت". كيف ظهر كل ذلك؟ وأيّ منها كانت له أسبقية الظهور؟ مجموعة صرخات وصور، كما أتصور.
لوموند: وداعًا اللغة؟
جان-لوك غودار: قرأتُ بعض النقد. يظنون أنه ينطوي على طابع مرتبط بسيرتي الذاتية. لا على الإطلاق!
لوموند: "وداعًا Adieu" في سويسرا هي أيضًا طريقة لإلقاء تحية الصباح.
جان-لوك غودار: نعم، تجد ذلك في كانتون فود Canton de Vaud. تجد المعنيين بالضرورة.
لوموند: في فن النحت أو الرسم، يمكن ترك جزء للمصادفة. هل الأمر ينطبق أيضًا على السينما؟
جان-لوك غودار: نعم تمامًا.
لوموند: أليس النظام مُقَيّدًا ومُلزِمًا؟
جان-لوك غودار: ليس هناك نظام. في نهاية المطاف، هناك نظام، ولكن إذا غادرت الطريق السريع، بوسعك أخذ الطرق المختصرة التي تحدّث عنها هايدغر.
لوموند: كلبك روكسي ليس معنا، هل تركته في سويسرا؟
جان-لوك غودار: لا أستطيع السفر به. له عالمه الخاصّ. لن أنقله من مكان لآخر وأُعَرّفه على أناس جدد.
لوموند: ماذا يُضيف لك روكسي؟
جان-لوك غودار: صلة، بين شخصين. هذه الصلة التي كان يتحدث عنها ذلك الفيلسوف العجوز الذي كان معلّمًا لأمي : ليون برنشفيك Brunschvicg. إنه من قمم الفلسفة الفرنسية في هذا الوقت. قرأتُ كتابًا صغيرًا له يُدعى "ديكارت وَباسكَل قارئان لمونتني". ديكارت يقول "أنا أعرف"، وَباسكَال "أنا أظن"، وَمونتنيّ "أنا أشُك". قال برنشفيك إن كل واحد منهم موجود في الآخر. أجدُ هذا مثيرًا، وحيويًا.
ليس ما أحبه في السينما هو "الصورة مقابل النص"، ولكني أحب هذا الشيء الذي يسبق النص: الكلام parole. اللغة langage هنا لاستخدام فِعل "الكون"، والكلام والصورة. في صورة السينما، هناك أمر آخر، شيء من استنساخ الواقع والمشاعر الأولى. الكاميرا أداة، مثل الميكروسكوب أو التلِسكوب عند العلماء. ثم يأتي بعد ذلك تحليل المعطيات، نعم نقول المعطيات، ولكن من أعطاها؟ (ضحكات).
لوموند: قد يكون ما تتحدّث عنه في الحقيقة نوعًا من الإدراك الأوّلي.
جان-لوك غودار: إنه نوع من التلقّي، والإدراك، وانكسار الضوء. لطالما اهتممتُ بمن كانوا على هامش هذا الموضوع، فلاسفة مثل كانغيلام Canguilhem، أو باشلار Bachelard. فكُتيّب صغير مثل "فلسفة اللا" كتبه باشلار عندما كان دوغول في لندن.
أمّا أنا، فأعدّ تقريرًا دائمًا. بعد ذلك، هل يوافق مَن تُرسل إليه الكرة على أن ينظر إليها باعتبارها تقريرًا؟ ثم يعدّ بنفسه تقريره؟ ثم إرسال تقريره إليّ؟
أدهش باستمرار عندما تطلب الدولة تقارير، لا توجد حتى أية صور في التقارير. لا نضحك قط عند قراءة تقرير، يجب أن نحاول أن نفهم قليلًا اكتشافات هايزنبرغ، وأن نفكّر على طريقته، وأن نفهم نزاعه مع بور Bohr في بدايات ميكانيكا الكم. لقد حاولتُ أن أصنع فيلمًا مع إيليا بريغوجين. وقد حاورتُ ذات مرة ريني توم Thom حول "الكوارث". إنه إنسان في غاية اللُطف والودّ. اليوم، لابد وأنه لم يَعُد يُنظَر إليه على أنه مُهمّ.
لوموند: وقد تكون تلك أيضًا بداية. انظر مثلًا إلى جاك مونو Monaud...
جان-لوك غودار: إنه مثل عمّي.
لوموند: مع فرنسوا جاكوب، اكتُشِفت الشفرة الجينية، أبجدية علم الوراثة. هذه الأبجدية لا تزال صالحة حتى يومنا هذا.
جان-لوك غودار: بالضبط. أتذكر حلقة في "راديو وتلفزيون لوكسمبورغ"، وقد دعاني إليها مونو. وكان يتحدث عن الـ "دي إن إيه DNA"، والـ "آر إن إيه RNA" [الحمض النووي الريبوزي]. وكان يقول إنها عملية انتقال من الـ DNA إلى الـ RNA. قلتُ له إن المسار العكسي وارد أيضًا. ولكنه ردّ عليّ قائلًا "أبدًا"! بعد ذلك بسنوات، اكتشف هوارد تيمين المنتسخة العكسية.
لوموند: لقد حصل على نوبل بفضل هذا الاكتشاف.
جان-لوك غودار: كنتُ فخورًا للغاية عندما علمتُ بذلك (ضحكات).
لوموند: لقد اكتُشِف فيروس الإيدز بهذه الطريقة.، عندما سلّموا أنه قد يكون فيروسا ارتجاعيا...
جان-لوك غودار: فعلًا؟ قالت آن-ماري (مييفيل) إنها ستكتب على قبري "على العكس" (ضحكات). يمكننا تسجيل مثل هذه الأشياء في فيلم. وبعد ذلك، يفعل الناس بها ما يشاؤون. يمكننا فعل ذلك ولكننا لا نفعله. في عالم صغير، حيث لا يتعرّض أي شخص للأذى، يمكننا فعل ذلك. ولكننا نفضّل العالم الكبير الذي يتعرّض الكثيرون فيه للأذى.
لوموند: نفهم من عمل آلان برغالا Bergala "غودار في العمل" أن طريقة عملك تختلف باختلاف الأفلام. فأيّ طريقة عملت بها في فيلمك وداعًا اللغة؟
جان-لوك غودار: ليس هناك طريقة. هناك عمل.
لوموند: أنت تفهم مع ذلك ما أود قوله...
جان-لوك غودار: نعم، ولكن إذا فهمته، فمن الصعب قوله، وإلا سيُقال عندئذ ما لا يستطيع الفيلم قوله. قد يستطيع الصحافي قول ذلك، ولكنه لا يفعله. قد يستطيع نشر صور أخرى وأمور أخرى... ولكن دعني أخبرك أنه يمكن الوصول، شيئًا فشيئًا، إلى طريقة عمل. في التنس، هناك الضربة التي تفاجئ الخصم وتذهب في اتجاه غير متوقّع. وفي الملاكمة، هناك اللكمة المضادة. كل ذلك صور تقول بأن دورة رولان-غاروس يمكن أن تُنَظّم بشكل آخر. ولكن ذلك لا يُصَوّر. لا نتابع اللعبة، لا نتابع المباراة. يجب أن تتواجد في الملعب لتتمكّن من المتابعة.
لوموند: أين كنت ستضع الكاميرات في رولان-غاروس؟
جان-لوك غودار: لقد حاولنا، ولكننا لم نستطع. لم يكن لنا حق النزول إلى الملعب حتى لو تنكّرنا في شكل ملتقطي الكرة. كنت سأصنع بالطبع فيلمًا عن ملتقط الكرة. ولكني أردت النظر بشكل مختلف. فنصوص سارتر حول الرسم أعجبتني كثيرًا. فقد عرفت من خلاله العديد من الرّسامين مثل فوترييه Fautrier، ريبيرول Rebeyrolle، لو تينتوريتو Le Tinoret، وغيرهم. إن نصوص سارتر النقدية رائعة، مثل بعض نصوص مالرو Malraux أو حتى فيليب سولرز Sollers. أذكرُ دائمًا فيليب عندما ينتقدون حُبّي للاقتباسات. الاقتباسات أدلّة. فهو يعنْون فرعيًا لوحة "الأوليمبيا" لـ مانيه Manet بـ "بورتريه أناركية". ألا تتفق؟ فلنتناقش.
لوموند: إن هذا التأويل للأوليمبيا...
جان-لوك غودار: هذا ليس تأويلًا...
لوموند: بدءًا من اللحظة التي تضع فيها هذا العنوان الفرعي تحت اللوحة، فأنت تُجبر العيون على الرؤية في اتجاه معيّن...
جان-لوك غودار: صحيح، ولكن بعد ذلك يمكنك الذهاب إلى أي اتجاه آخر تحب.
لوموند: هل تفكّر حاليًا في فيلمك القادم؟
جان-لوك غودار: لا على الإطلاق. ربما لا أفعل، أو أفعل ذلك مع أفلام قصيرة مثل "رسالة إلى جيل جاكوب". كانت رسالة خاصّة، ولكنه قرر أن يجعلها علنية.
لوموند: في الفيلم، تلجأ في عدة مواضع إلى تجريب تقنيات حول الصورة. فهل يعجبك ما يفعله فنانو الفيديو؟ بِل فيولا Bill Viola، هل ستذهب إلى القصر الكبير Grand Palais لمشاهدته؟
جان-لوك غودار: لا، أنا أكره ذلك. تمامًا مثل بوب ويلسون. إنه سيناريو ليس إلا. إنه نص مكتوب، صيغ في قالب صورة، عادةً ما يكون مبهرجًا.
لوموند: أي سينمائيين يعجبونك اليوم؟
جان-لوك غودار: لا أعرف تسعة أعشارهم. في باريس، فقدتُ الرغبة في أن أنزل الشارع لمشاهدة فيلم. ربما أشاهد فقط الفيلم السوري المعروض في كانّ، ثم فيلم سيساكو Sissako، وكنت قد رأيت "باماكو Bamako" على الـ DVD. أما فيلم Mommy فلن أذهب لمشاهدته، لأنني أعرف ما سأجده فيه. نعرف أن ثلاثة أرباع الأفلام حاليًا هي فقط ما يُكتب عنها في مجلة Pariscope: "طيار يحب طبيبة أسنان..".
لوموند: هل تعتقد بأن الديمقراطية ماتت؟
جان-لوك غودار: لا، ولكن يجب ألّا تُمارَس بهذا الشكل. ربما هناك طرق أخرى. عادةً نجد هذه الطرق مع ميلاد الأشياء. ولهذا، فمن المهم أن نعود إلى الوراء. مؤخرًا، أعدتُ قراءة رواية مالرو "غرقى الألتنبرغ"، من نشر مكتبة لابلياد La Pléiade. في نفس المجلّد، وجدتُ نصًا ضخماً "شيطان المطلق"، كتبه مالرو عن لورنس العرب. لم أكن أعرف هذا النص، وهو مختلف كثيرًا عن كتبه الأخرى كـ "الأمل" أو "الوضع الإنساني". ولا يجب أن أنسى هذا النص المُسمّى "من الفيستولا إلى المقاومة"، الذي يصف فيه مالرو هجومًا غازيًا على الجبهة البولندية الروسية. ولا أنسى أن سارتر كتب "موتى بلا قبور"، الذي يناقش قضايا بلا حلول متعلّقة بالمحرقة.
كما أن مالرو أخرج فيلم "الأمل" قبل أن يكتب الرواية نفسها. كان بحاجة إلى صنع ما هو أكبر من الكتاب، إلى صنع شيء آخر، صنع فيلم. إن أحد أوائل النصوص التي ساعدتني هو "مخطط لسيكولوجية السينما" الذي كتبه مالرو في 1946، ولكني قرأته في مجلة Verve.
مالرو، وسارتر، بالنسبة لي، هما نصفا-آلهة. ما هو المقابل المذكّر لكلمة muses؟ (جان-لوك غودار: ميوزات، حوريات) ليس هناك كلمة مذكّرة. أحب كثيرًا كتاب "كليو Clio" لـ (شارل) بيغي Péguy. كليو، ميوزة التاريخ. كان بيغي يقول : "ليس عندنا سوى كتاب نضعه في كتاب...". وقد وضعته أنا في "تاريخ السينما Histoire(s) du Cinéma" (1988).
السينما ليست استنساخًا للواقع، إنها نسيان الواقع. ولكن إذا سجّلنا هذا النسيان، يمكننا عندئذ التذكّر، وربما الوصول إلى الواقعي. إنه بلانشو الذي قال: "النسيان، هذه الذكرى الرائعة".
لوموند: الفيلم الوثائقي أم الفيلم الروائي، هل يمثّل ذلك مشكلة لك؟
جان-لوك غودار: الاثنان شيء واحد. وقد قيل ذلك في زمن روش Rouch، إنه أمر بديهي. وقد احتاج آلان رينيه Resnais، سريعًا، إلى سيناريو، إلى نص. الأمر نفسه ينطبق على سترَوب Straub. بعض أفلامه الرائعة مصدرها المقاومة أو بافيتزي Pavese. لقد أحببتُ وارهول Warhol عندما صنع فيلمًا عن الطعام أو النوم. لم أستطع مشاهدة أكثر من ساعة منه، ولكن مع ذلك فالأربعون دقيقة التي قضيتها أمامه ليست سيئة.
لوموند: قال لانزمان، إنه يريد صناعة فيلم حول المشكلة الجدل هذه بين الوثائقي والروائي...
جان-لوك غودار: إنه سيناريست. وأحيانًا كنا نشتبك لفظيًا، فقط. أمّا فيلم "الألم والشفقة" لـ مارسيل أوفولس Ophuls، فهو فيلم لطيف أيضًا. لقد صنعه في وقتِ كان يجب عليه فيه صناعته، حتى لو أنه ليس أفضل أفلامه.
لوموند: إذن أفضل أفلامه هو Hôtel Terminus؟
جان-لوك غودار: نعم. وإلى جانبه غروشو ماركس عندما يسأل الناس.