جالينوس الفلسطيني

09 أكتوبر 2017
+ الخط -
في ذاك، اليوم، تعاطفت أكثر مما يلزم مع أبناء جلدتي إلى الحد الذي خسرت فيه صور "بوكيمون" مميزة كنت أحتفظ بها في جيب ثوبي المدرسي، هي أغلى ما يملكه ابن أحد عشر حولاً.

ليس ذلك فحسب بل إن جزءاً من جسدي اشتعل حرقة وغضباً على المنتفضين في المسجد الأقصى والضحايا الممزقة جثثهم في غزة.

كنا في أول مظاهرة مدرسية تخرج إلى مدخل مخيم اليرموك دعمًا للانتفاضة، في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2000، أي بعد يومين على استشهاد الطفل محمد الدرة في أحضان والده.

أتذكرني كيف تواريت عن أنظار أمي وأبي هارباً إلى مطبخ بيتنا، لأبكي لوحة محمد الدرة التي تبثها شاشات التلفزة. 

في تلك الفترة بالذات لاحت بوادر ربيع سيزهر في داخلي رغم كل أوراق الخريف المتساقطة من حولي. وكنت شقياً بما يكفي لأن تحولني ورقة مشتعلة إلى من سينصب نفسه بطلاً صغيرًا وضحية في آن معًا.

وقتذاك لم أكن أدرِ لمَ استجمعت مخيلتي مشهد احتراق السجينات في مسلسل "كاسندرا"، وإذ بي أنا الذي هناك أحترق هنا وثلة من المتضامنين مع الدرة تطفئ ما أصابني به علم إسرائيلي سدده أحد أطفال المخيم تجاهي.

وللأمانة كانت تسديدة دقيقة جداً، فكرة اللهب المستشيطة منذ إلقائها عن علو تجمهرت على مشط قدم زميلي المنتفض ليحترف ركلها إلى ذراعي وأذني وشعري.

وعندها بدأ الربيع المنتظر يخرج من بين مسام جلدي على هيئة رجل ما زلت لا أعرفه حتى الساعات الأولى التالية للحادثة، إلا أنه سيطفئ نيران قلبي الملتهبة مساء وعلى مدى ثلاثة عشر يوماً أمضيتها بين سريرين. 

في بيت متواضع داخل السياج الفقير جنوب المخيم، وهي السمة العامة للجنوب، يمكث من سيلقّنني شيئاً عن هويتي.

كان نحيل الجسد بسيط الملامح والشيب يغزو لحيته وتحويطة الشعر الخالدة في رأسه الأسمر.

كما أن لهجته المطعّمة بالقاف المفخّمة والموروثة عن جيل الآباء والأجداد في قرية لوبية المهجرة قضاء طبرية أكدت لي أنه فلسطيني جداً. 

زرته بشعر أشعث وأذن أكبر من سدر الكنافة النابلسية نالا نصيبهما من كرة البنزين اللعينة، ولم أشعر بالخجل أمامه بل كان يشبهني بأنه "همشري" الملامح وهي حالة عامة للوطنيين الفقراء.

وفي غرفة بيته الصغير تشعر أن المختبرات العلمية لا تعترف بالمساحات الجغرافية، وأن العطاء لا يحتاج لقدرات مادية كبيرة.

ذاك الرجل العصامي وضع جلّ خبرته الطبية بين يدي أبناء شعبه، وكرس نفسه لخدمة المرضى بإنسانية تفوق أي اعتبار آخر وﻻ تعرف مكاناً للمادية وقشور الحياة.

مضت أيام على مواظبته لعلاجي بوصفة مرهم "ميبو" المستخلص من الفستق السوداني وخلطة خارقة أعدها بعناية على طريقة الخبراء الكيمائيين، بل إن تدخله منع أن تصير إصابتي تشوُّها أبدياً.

أتذكّر أنّه لم يتأخر يومًا عن تعقيم مواضع انسلاخ الجلد المنقوشة بعض آثارها على ساعدي الأيسر والتي آثرت الاحتفاظ بها كذكرى ثمينة.

وازداد اهتمامه بي حين علم أن إصابتي تحمل بصمات وطنية، فاعتبرني أصغر ثائر في العالم وعيّن نفسه ملهمي الكادح دون أي مقابل.

رائحة الديتول الذي استخدمه لتعقيم مقص تنظيف الجلد الميّت لا تزال خالدة في جيوبي الأنفية، تتخللها دغدغة ذاك المقص اللطيفة فوق ذراعي. 

ولطالما تخيلته تقمصاً شرعياً لروح أحد العلماء اليونانيين القدامى، ما دفعني لمقارنته بعدد منهم، إلى أن صار بمثابة أبقراط أو جالينوس الفلسطيني من وجهة نظري الناضجة لاحقاً.

وبتّ مقتنعاً أن ملكَة الطبيب الفيلسوف التي حظي بها تثبت من وجهة نظري أن جزءاً من الفلسطينيين أحفاد للإغريق ورثوا عنهم الحكمة وتحضير العقاقير البديعة.

حتى أن إحدى قريباته أكدت لي مراراً أنه خارق الذكاء وينتج أفكاراً فلسفية ونظريات حرة، لكن للأسف جرت العادة العربية ألا نقدر علماءنا بما يكفي وأن نتمنّع عن صناعة قدوات تعبقرنا وتبني بلداننا.

وأما إطلالته الوديعة فلا تنسى وهو يغني لي ولإخوتي "ع الرباعية" قبل موعد دهن المراهم على جلدي المحروق... 

كنت أردد بعض أناشيد المجموعة "طالعلك يا عدوي طالع.. يا جماهير الأرض المحتلة" ذات يوم، حفّظتني إياها أجواء بيئتي في المخيم عن ظهر قلب منذ الصغر، ولم أتأكد أني مجرد ببغاء يكررها بلا تدقيق في المعاني إلا بعد أن جاء ذاك المخلّص، ليصوب ما فاتني من كلمات.

واستمر بالغناء لي كعندليب حين تعافيت، ورقص مرات عديدة وصفق مبتهجاً بشفائي على يديه كما لو أني رفيقه الناجي من المعركة أو الحكم الذي منحه شهادة الدكتوراه للمرة الثانية في حياته.

وظل مشجعاً لي في كل خطوة تفجر طاقاتي، حيث أثنى كثيراً على معرض صور الانتفاضة الذي أقمته على سطح بيتنا في الذكرى الأولى لها العام 2001، بعد جهود كبيرة بذلتها طيلة سنة وأنا أجمع وأقص صور أطفال الحجارة والشهداء من الصحف الفلسطينية والسورية واللبنانية لألصقها على ألواح كرتونية كبيرة.

أما اليوم وفي ذكرى كل تلك الذكريات تأبى لوحة الدرّة إلا أن تأخذني نحو من أجج فلسطين العصرية في داخلي، والصدفة أن وفاته جاءت في موعد قريب من كل تلك المواعيد كي تبقى مرتبطة بها في السيرة والسرد.

رحل معلمي الطبيب أحمد مصطفى رشدان ابن فلسطين وسورية من بوابة ملجئه الثاني في مخيم البرج الشمالي جنوب لبنان مشتاقاً لأهله وتاركاً وراءه شعاع أمل على طول الطريق.

ذاك الفيلسوف الهادئ ترجّل آخذاً معه معظم بقايانا الجميلة، وترك أثرًا طيباً من عقاقيره الوطنية في أجسادنا وعقولنا ليبقى حيـّـاً إلى الأبد... 

إلـى اللقاء يا جالينوس الفلسطيني.

C45E67AF-B1C7-42EF-A46B-063C019FCA23
أشرف نبيل سهلي

مدون وناشط عبر مواقع التواصل الاجتماعي