من الصعب تقديم جاك لانغ، أحد أشهر الشخصيّات الثقافية والسياسية الفرنسية التي أثرّت- بصورة لا عودة عنها- في الحياة الثقافية الفرنسية.عمل لانغ في المجال العام وتقلَّد مناصب رفيعة أثناء حكم الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، فقد شغل لمرتين منصب وزير للثقافة كما عمل وزيرًا للتربية والتعليم، ومنذ سنتين وهو يرأس معهد العالم العربي في باريس.
* عند النظر إلى مسيرتك المهنية الغنية، فأنت حاصل على شهادة دكتوراه في الحقوق، يخيّل إلي أن هذه الخلفية الحقوقية، سمحت لك بتجسيد إنجازاتك الثقافية. فحين كنت وزيرًا للثقافة أثناء حكم الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، تم إنجاز صروح ثقافية عدّة منها ؛ معهد العالم العربي والهرم الزجاجي في متحف اللوفر وأوبرا الباستيل، والمكتبة الوطنية الجديدة المسماة أيضًا مكتبة فرانسوا ميتران وغيرها. هذه الصروح فاعلة في المشهد الثقافي الفرنسي، أتظن أن لتنوُّع اختصاصاتك الجامعية علاقة بالأمر؟
مهنتي الحقيقية هي أستاذ في القانون، فقد درّست القانون لمدة طويلة، وكنتُ عميد كلية الحقوق أيضاً. أحبّ القانون، وأحبّ التدريس هذا صحيح، هذه هي مهنتي الحقيقية. وليس خطأً القول إن المعرفة بالقانون قد تكون مفيدة عند القيام بوظيفة تتطلَّب قدراً كبيراً من المسؤولية، فقد كانت خلفيتي هذه بمثابة تحضير لي للاضطلاع بمراتب وظيفية عالية ومهمّة قبل أيّ شيء آخر. لكن، قبل ذلك سمحت لي خبرتي العملية، بابتكار مهرجان المسرح العالمي في نانسي، وقتها تعلّمتُ كيف يتمّ تصوّره ومن ثم إنشاؤه وتفعيله. بعد ذاك، أصبحتُ مديراً للمسرح الوطني، الأمر الذي أتاح لي أيضاً فهم نظام الإدارة الفرنسي والمسائل المتعلِّقة به بشكل أفضل. أوافق على أن خبرتي العملية وخلفيتي بوصفي أستاذاً للقانون ومبتكرَ مهرجانات ومناسبات ثقافية، وعملي في وظائف ذات مسؤوليات عالية في المؤسسات العامّة، قد ساعدتني كلّها، وحضّرتني للقيام بالمهام الوظيفية التي طُلبت مني بعد ذلك، ليس من أجل تصوّرها فحسب، بل من أجل إدارتها وتفعيلها أيضاً.
* تم تعيينك رئيسًا لمعهد العالم العربي في الثالث عشر من يناير / كانون الثاني عام 2013 . هل يمكن أن تقدّم لنا حصيلة أوّلية للعمل الذي أُنجز في هذه المؤسسة التي كانت تعاني من عجز مادي مترافق مع غياب خطّة ثقافية متماسكة؟
قبل أن أبدأ بالكلام عن ذلك، أود الإشارة إلى أنني أنظر إلى العالم العربي باعتباره عالمًا شاسعًا وكبيرًا. هو غير مقتصر على الاثنتين والعشرين دولة، بل حاضر في كلّ القارات، والمساهمات والابتكارات العربية منتشرة ؛ ثمة "عالم عربي" في إفريقيا وعالم عربي في آسيا وعالم عربي في أميركا اللاتينية وعالم عربي في أوروبا. العالم العربي هائلٌ إذاً، وتصل حدوده إلى العالمية. وفي الوقت نفسه، فإن معهدًا مثل معهد العالم العربي متفرِّدٌ ولا نظير له، ومن مهامه التعبير عن التاريخ والتراث والثقافة الخاصّة بهذا العالم العربي، ومن مهامه - في الوقت نفسه- أن يكون منتبهاً، إلى التغيُّرات والتحوُّلات الحاصلة في العالم العربي. مضت سنتان تقريبًا منذ ترؤسي للمعهد. لا أريد كيل المديح لشخصي وللعمل الذي أنجزته. لكنني ألاحظ وجود إجماع؛ فالصحافة وزوّار المعهد على اختلافهم وكذلك المختصّون والدول العربية والفرنسيون، يعبّرون باستمرار عن شعورهم الخاصّ بأن المعهد يعيش فعلًا حقبة تجديد. وفي ظنّي فإن ذلك الشعور، يعود في جزء كبير منه إلى الجهد الكبير الذي يبذله فريق العمل. فقد نجحنا معًا على ما يبدو، في ضخّ نوع من الحيوية في "البيت"، وفي خلق ديناميكية جديدة. قمنا بعقد الصلات والربط مع الأحداث والنشاطات الكبرى، ونحن نولي فعلًا الأولوية للنشاطات التي تحفزّ الحوار والنقاش كالندوات واللقاءات. أعتقد أننا نسير على الطريق الصحيح. وأظن أيضًا أن علينا الاستمرار بهذه الديناميكية وهذا الزخم، وأن نوسّع ذلك ونطوّر مجالاته. حقيقةً، وبعد مرور سنتين، أقول إنني لم أكن أظننا سنصل بهذه السرعة إلى إعادة خلق مناخ للثقّة في عمل المعهد، وفي الوقت نفسه تعبئة الطاقات والمواهب داخله. وأستطيع ضرب أمثلة عن هذا الجو من مجموعة النشاطات، كدليل على ذلك: مثل المعرض الفنّي الذي أقيم عن المغرب وثقافاته، ومعرض "مكة والحج" الذي لاقى صدى قويًا في أوساط الجمهورين الفرنسي وغير الفرنسي. أو معرض "قطار الشرق السريع". وكذلك المعرض الذي انتهت فعالياته مؤخرًا عن موسيقى الـ "هيب هوب" (من أحياء هارلم إلى شوارع الضواحي)، الذي كان بحقّ موعدًا ثقافيًا مميزًا. فضلًا عن الندوات والمحاضرات وبشكل خاصّ لقاءات "خميس المعهد"، التي رافقت كلّ هذه المعارض وشهدت إقبالًا كبيرًا من الجمهور العريض والجمهور المختص من الطلاب والأساتذة والباحثين الجامعيين والخبراء. وأطلقنا مؤخرًا تظاهرة جديدة هي "اللقاءات التاريخية عن العالم العربي"، وعرفت دورتها الأولى التي دامت لثلاثة أيام، مشاركة أزيد من مائة وخمسين مؤرّخًا ونظّمت قرابة خمسين مائدة مستديرة حول موضوع "المدينة". ورافقتها أنشطة سينمائية بالطبع وحفلات توقيع كتب، كلّ ذلك حوّل المعهد إلى "ورشة تاريخية" لو صحّ التعبير، مفتوحة على أسئلة المفكرين والباحثين والمؤرّخين المشاركين. وفي العاشر من شهر سبتمبر/ أيلول المقبل سننظّم معرضًا عن كنوز "أوزوريس المخفية"، ويليه معرض آخر مخصّص للحدائق. أمّا في المجال الموسيقي، فسوف نخصص حيزًا خاصًا للموسيقى الشبابية.
كما ترى فإن هذا التنوع في التظاهرات لدينا، هو ما عنيته حين قلت إننا أطلقنا دينامية غير مسبوقة ومرشحة للاستمرار، إذن المعهد يحيا مجدّدًا. لذا فقد بدأت جهات عدّة تقترح علينا مشاريع ثقافية وفنّية، إلى درجة جعلتنا نؤجّل بعض المشاريع المهمّة. أظن أن المعهد بدأ يحتلّ موقعه المميز في المشهد الثقافي الباريسي إلى جانب مؤسسات ثقافية أخرى مثل مركز جورج بومبيدو، ومتحف "كي برانلي" Quai Branly ومتاحف أخرى مثل متحف أورسي بل وحتّى متحف اللوفر العريق. وأشير أيضًا إلى عدد الزوّار، أعداد غفيرة "تحج" إلى المعهد، وهي لا تفعل هذا من أجل التقاط الصور من الطابق التاسع المطلّ على باريس، بل من أجل زيارة متحف المعهد ومكتبته، وحضور المعارض الكبرى واقتناء الكتب العربية والتعرّف إلى الثقافة العربية. ثمة حيوية جديدة في حياة المعهد، ونريد ونسعى إلى إشراك الجميع فيها.
*مضى على إنشاء المعهد أزيد من خمسة وعشرين عاماً، وفي الفترة الأخيرة تمّ إنشاء هيئات ثقافية تشبهه مثل متحف الـ «LE MUCEM» في مرسيليا، وكذلك افتتح قسم الفنون الإسلامية في متحف اللوفر، فضلاً عن معهد ثقافات الإسلام في الدائرة الثامنة عشرة في باريس. أين معهد العالم العربي من كلّ هذا؟
أنا مسرور جداً بوجود هذه الهيئات، ولا يمكنني التذمّر البتة، فأنا بنفسي شاركتُ - قليلاً- في ولادة أو تجديد متحف اللوفر، فقد ساهمتُ في إنشاء قسم الفن الإسلامي فيه، حين كنت في أوّل عهدي بوزارة الثقافة في يونيو/ حزيران عام 1981. فقد اكتشفتُ مجموعة الفن الإسلامي الخاصّة باللوفر موجودة أو- بتعبير أدقّ- مدفونةً في الصناديق في قصر طوكيو الذي كان بمثابة مقبرة لمتاحف فرنسا، فكلّ ما لا تريد المتاحف عرضه كان موجوداً هنا. في تلك اللحظة، اتجهتُ نحو مدير متاحف فرنسا، وليس مدير متحف اللوفر كما يُسَمّى اليوم، وهو رجل ممتاز ورائع، وسألته: لماذا هذه المجموعة موجودة هنا؟ ولماذا لا يتمّ عرضها؟ فقال لي: لا يوجد مكان يتّسع لها. وينطبق الأمر نفسه على التحف الإفريقية أيضًا. وأضاف نحن لا نستطيع عرضها في الوقت الحالي. لذا قمتُ باتخاذ ذلك القرار، الذي لم يكن سلطوياً، لكن ذا سيادة، وقابلاً للتنفيذ، فقد كنت موكلاً، وقتها، ومنشغلاً بالإشراف على بناء المعهد، فأخذت قرارًا بتقديم مجموعة الفنّ الإسلامي وعرضها بشكل مؤقَّت في معهد العالم العربي. ولمدّة حوالى خمس إلى سبع سنوات، كان جزء من المجموعة، لا كلّها بالطبع فهي مجموعة كبيرة، معروضاً في معهد العالم العربي، وهو الجزء الأجمل منها. وفي النهاية "استيقظ" متحف اللوفر إن جاز التعبير، وانتبه إلى أن هذه المجموعة تعود إليه، وهكذا فقد أقاموا- أولاً- قسماً خاصّاً بالمجموعة في قلب المتحف، وقام لاحقاً مدير المتحف اللوفر بإنشاء مكان أكبر وخاصّ بالمجموعة الإسلامية. إذاً، لا، ليس بإمكاني التذمُّر ألبتة، بل على العكس أنا سعيد، وهذه المؤسَّسات لها منظورات مختلفة عن المعهد، ولكننا نتكامل معاً.
* لكن ماذا عن المشاكل الهيكلية التي لم تجد حلًا لها بعد، من قبيل التمويل وإعادة التنظيم الداخلي لأقسام المعهد؟
طبعًا لا زالت العديد من القضايا قيد الدرس. يبقى أهمّها مشكلة التمويل وإعادة صياغة تنظيم داخلي جديد. الخطوة الأولى التي قمت بها، أنني بادرت باتجاه البلدان العربية وذلك من أجل طمأنتها واستعادة ثقتها، ضمن جو من الحوار والاحترام المتبادل. كانت الدول العربية سابقًا تساهم بميزانية سنوية. لكن ذلك توقّف منذ حوالى خمسة عشر عامًا. أمّا اليوم، ففرنسا وحدها تساهم في تمويل ميزانية المعهد، وفي تسيير أموره. هذه الميزانية التي تقارب الاثني عشر مليون يورو سنويًا، لم تعرف زيادة تُذكر. بل إنها تتناقص بسبب تخفيضات الموازنة التي تطول جميع قطاعات الدولة الفرنسية. الأنشطة والتظاهرات التي ذكرتها لك توًا، موّلتها وزارة الخارجية الفرنسية. التمويل العربي غير موجود. ومنذ عدّة سنوات أنشئ صندوق للتمويل، يتيح لنا تغذية الميزانية بفضل مساهمات عدّة دول عربية، ويتيح لنا أيضًا الاستثمار بنسبة ضئيلة، تمكننا من إضافة مليون يورو تقريبًا إلى ميزانية المعهد. وبعد ذلك كلّه، يقع علينا عبء خوض المعركة لإنجاح كلّ مشروع على حدة، من أجل الحصول على تمويل للمشاريع الثقافية. وأضرب مثالًا عن ذلك، فقد موّلت الشركة الوطنية الفرنسية للسكك الحديدية، معرض "قطار الشرق السريع". وموّلت مكتبة الملك عبد العزيز في الرياض بشكل جزئي معرض "مكّة والحج". أمّا المعرض عن المغرب العربي وثقافاته، فقد استطعنا الحصول على دعم مادي ومعنوي من العاهل المغربي محمّد السادس. وقد فتح هذا التمويل باب التطوع لدعم أوسع، شاركت فيه كبريات المؤسسات البنكية والصناعية بالمغرب. كلّ المشاريع الثقافية التي نضعها اليوم على طاولة البحث، يتوقّف إنجازها على نظام الرعاية والتمويل الذاتي الخاص. أي إننا نفكّر في العديد من المشاريع، إلا أن إنجازها وتحقيقها يرتبطان فعلًا بالتمويل. وهذه المشاريع تهتم بمناحٍ شتّى منها؛ اللغة العربية، العرب والبحار، وطريق الحرير وغيرها.
* وهل تلقي الأحداث الحاصلة في العالم العربي بظلالها على الأمر؟ وهل أثّر ذلك في تمويل المعهد من قبل تلك الدول، سواءٌ أكانت من الدول الغنية أم لا؟
سأضرب مثالًا عن ذلك ليبيا. قبل أن يتدهور الوضع هناك، حوّلت الحكومة الليبية للمعهد المستحقات المتبقية. وقام العراق بالخطوة نفسها. وفي الظرف الراهن من الصعب أن نطلب من هذين البلدين أن يقوما بجهود إضافية. لكننا نسعى، في ما يخصّ دول الخليج، على تحفيزها من أجل نهج سياسة انفتاح ثقافي على الحياة الثقافية في فرنسا خصوصًا، وفي أوروبا بصورة عامة، وصولًا إلى الغرب بشكل أوسع. فالمعهد يؤدّي دور الجسر الذي يربط بين هذه الجغرافيات الثقافية التعددية. إلا أن هذا التحفيز يشترط أيضًا المستوى المهني والاحترافي العالي وكذلك جودة الإبداع الثقافي. يلفت نظري أن دول الخليج تحوّلت اليوم، إلى ورشة للإبداع الفنّي والثقافي. ففي الرياض وأبو ظبي والدوحة وغيرها من عواصم الخليج، ثمة حيوية ثقافية لا تقلّ أهمية عمّا يحدث في باريس ونيويورك ولندن وروما. فقد أدركتْ هذه الدول أن للثقافة قيمة رمزية لا تضاهى. ونحن نسعى من خلال مدّ الجسور مع هذه الدول، إلى خدمة الثقافة العربية في المقام الأوّل، لكن ليس بالمعنى الضيق لتعبير "خدمة" بل بالمعنى الكوني. ومن المؤكّد أن ما يحصل من أحداث في بعض الدول العربية، ينعكس علينا وعلى سياستنا الثقافية سواءٌ بشكل مباشر أم غير مباشر. لأن ما يحصل يتطلّب منا اتخاذ مواقف ثقافية وأخلاقية من العنف ومخلفاته. ونحاول عمل ذلك، من خلال الندوات الفكرية أو المنتديات التي أطلقناها مؤخرًا مثل منتدى عن حركات التجديد العربي، أو من خلال اللقاءات التاريخية للمعهد أو لقاءات الخميس التي تجمع خيرة الباحثين والمفكّرين من أنحاء العالم.
* أصبحت لشبكات التواصل الاجتماعي سلطة نافذة في جميع المجالات. كيف يتم تسخير أدواتها لخدمة الثقافة؟
نعمل على استقطاب الطاقات الشبابية لتحفيزها على ثقافة الإبداع والابتكار ولجعلها عناصر إبداعية. ولأجل ذلك نجنّد جميع وسائل التكنولوجيا الإعلامية. وسنطلق في مستهلّ العام القادم موقعًا جديدًا للمعهد، ستكون له القدرة على التفاعل الفوري مع أنشطتنا ومع أنشطة شبيهة بها. لكن منصة الموقع يجب أن تكون بدورها جسرًا لخلق شراكات وتفاعلات متعدّدة كفيلة بإدماجنا ضمن شبكة إعلامية كبرى، تشمل العالم العربي وعوالم أخرى، وحلقات وصل واتصال جديدتين. إنه رهان يجب أن نخوضه، لأنه رهان مصيري، يتوقّف عليه مصير الثقافات العربية. ويجب التذكير أن التغيير الذي تشهده المجتمعات العربية يرجع الفضل فيه إلى شبكات التواصل الاجتماعي، فقد أصبحت بمثابة مؤشر عن كلّ ما يحدث في الوطن العربي. ويجب الاعتراف بدور المرأة في هذا المجال أيضًا. إذ إن شبكات التواصل الاجتماعي بـ "صيغة المؤنث" لها خصوصيتها وخطابها وأهدافها. ونحن نهدف بصورة عامّة إلى أن يكون للمرأة العربية صوتها القوّي ضمن أنشطتنا وبرامجنا. ذلك لأن التغيير أصبح يتوقف على المرأة. ولقد سبق ونشرت كتابًا بعنوان: "غدًا، النساء".
* وماذا عن ثقافات "الضواحي" المنسية والمهملة في فرنسا؟
أنا حريص شخصيًا على إدخال الضواحي إلى البرامج الثقافية في المعهد. لكي يصبح هذا الأخير خزّانًا ثريًا وممتلئًا بالطاقات الشبابية من أصحاب الإبداعات المميّزة. فالمعرض الذي احتضنه المعهد واستمر إلى نهاية يوليو/ حزيران المنصرم، عن موسيقى الهيب هوب ولاقى نجاحًا كبيرًا، لهو خير دليل على ذلك. وثمة روائيون متحدّرون من الضواحي، وجعلوها مادّة روائية مميزة في كتاباتهم. أذكر منهم الروائي الشاب رشيد جعيداني أو فايزة غين أو مبروك راشدي وغيرهم. نحن نرغب في نزع النظرة الدونية العالقة بالضواحي وبثقافتها، وهي نظرة ناجمة عن رواسب الخطاب السياسي. في كلّ المجالات مثل الموسيقى، والفنّ وجميع أشكال الثقافة، يعدّ "أبناء الضواحي" عاملاً حيويًا أساسيًا، ولا معنى للثقافة الفرنسية من دونه. أمّا الذين يختزلون الضواحي في سلوك العنف والتطرّف، فإنما يفعلون ذلك من باب المزايدة السياسية. بينما تزخر الضواحي بطاقات هائلة تحتاج إلى الاعتراف بها، وردّ الاعتبار لها. الإدماج بالمشاركة هو البرنامج الذي يجب أن يعمل عليه رجالات السياسة والثقافة معًا.
* يقودنا هذا إلى السياسة قليلًا، فقد كنت وزيرًا للثقافة أثناء حكم الرئيس الراحل فرانسوا ميتران. وكانت فرنسا تعيش زخمًا ثقافيًا في جميع الميادين. ماذا عن اليوم؟ أقصد هل من سياسة ثقافية لليسار الفرنسي اليوم؟
سعيت أثناء حكم ميتران إلى إقامة علاقات ثقة مع المثقفين من دون تسخيرهم لمآرب سياسية. على أي حال، كان من الصعب استقطاب المثقفين بحكم قوّتهم النقدية. وكانت إحدى مهامي الإنصات إلى خطابهم ومطالبهم، سواء أكانوا فنانين أو باحثين أو رجال علم. وأفضل شيء يمكن عمله اليوم، هو إشراك كلّ الفعاليات في بناء سياسة ثقافية جديدة. أتحدّث هنا عن المثقّف بمعزل عن انتمائه الفكري أو السياسي. ومن المؤسف اليوم أن مصطلحات مثل: ثقافة وعلم وذكاء وعقل، انسحبت من الخطاب السياسي وسادت بدلًا منها مفاهيم أخرى مثل: المردود، العجز، المديونية، أي مصطلحات من الخطاب الاقتصادي الذي لا يهمه سوى "الرجل الاقتصادي". المشروع اليساري بالنسبة لي هو مشروع حضاري، وثقافي لا مشروع "ميركانتيلي" أسير منطق السوق والعملات والمزايدات.
* أثناء حكم فرانسوا ميتران أيضًا أقيمت صروح كبرى، مثل القوس الكبير، وأوبرا الباستيل، ومتحف اللوفر الكبير، والمكتبة الوطنية أي مكتبة فرانسوا ميتران على سبيل المثال. هذه الصروح الثقافية متميّزة بعمارتها، ونعلم أن المعماري الفرنسي جان نوفيل هو الذي صممّ مبنى معهد العالم العربي، ربّما تستطيع أن تحدّثنا عن ذلك؟
في البداية أنا مسرور جداً بهذا، وصحيح أن جان نوفيل هو المصمّم المعماري لمعهد العالم العربي، لكنّه لم يكن معروفاً البتة وقتها. وأذكر تماماً أنه عندما كنا – بالتوافق مع الرئيس فرانسوا ميتران – في صدد استدراج عروض من أجل بناء المعهد، قرّرنا ألا نتوجه إلا لمعماريّين شبّان، وكان يوجد حوالى (دزينة) من المعماريين الشباب أعمارهم في الثلاثينيات. وقد كان هذا خروجاً عن العادة المتّبعة والسائدة، إذ عادةً ما كانت الدولة تتوجّه نحو "معماريين كبار ومعروفين ومُكَرّسين" ومن الحائزين على الجوائز المرموقة. حين وقع الاختيارعلى جان نوفيل، لم يكن معروفاً أو مشهوراً أبداً وقتها. وأنا سعيد جداً بأن الأمر لَقِيَ نجاحاً كبيراً، خاصّةً وأن نوفيل أصبح نجماً عالمياً. وينطبق الأمر نفسه على بيي IEOH MING PEI، ولو أنه ليس فرنسياً، فهو مصممّ الهرم الزجاجي في متحف اللوفر. وكذلك ڤيلموت JEAN-MICHEL WILMOTTE، المصمّم الشاب وقتها، الذي ساهمت في التعريف به وفي إطلاقه أثناء حكم الرئيس فرانسوا ميتران، وأذكر أننا وقتها أوكلنا إليه مهمّة تصميم الديكور للشقق الخاصّة برئاسة الجمهورية الفرنسية.
مهنتي الحقيقية هي أستاذ في القانون، فقد درّست القانون لمدة طويلة، وكنتُ عميد كلية الحقوق أيضاً. أحبّ القانون، وأحبّ التدريس هذا صحيح، هذه هي مهنتي الحقيقية. وليس خطأً القول إن المعرفة بالقانون قد تكون مفيدة عند القيام بوظيفة تتطلَّب قدراً كبيراً من المسؤولية، فقد كانت خلفيتي هذه بمثابة تحضير لي للاضطلاع بمراتب وظيفية عالية ومهمّة قبل أيّ شيء آخر. لكن، قبل ذلك سمحت لي خبرتي العملية، بابتكار مهرجان المسرح العالمي في نانسي، وقتها تعلّمتُ كيف يتمّ تصوّره ومن ثم إنشاؤه وتفعيله. بعد ذاك، أصبحتُ مديراً للمسرح الوطني، الأمر الذي أتاح لي أيضاً فهم نظام الإدارة الفرنسي والمسائل المتعلِّقة به بشكل أفضل. أوافق على أن خبرتي العملية وخلفيتي بوصفي أستاذاً للقانون ومبتكرَ مهرجانات ومناسبات ثقافية، وعملي في وظائف ذات مسؤوليات عالية في المؤسسات العامّة، قد ساعدتني كلّها، وحضّرتني للقيام بالمهام الوظيفية التي طُلبت مني بعد ذلك، ليس من أجل تصوّرها فحسب، بل من أجل إدارتها وتفعيلها أيضاً.
* تم تعيينك رئيسًا لمعهد العالم العربي في الثالث عشر من يناير / كانون الثاني عام 2013 . هل يمكن أن تقدّم لنا حصيلة أوّلية للعمل الذي أُنجز في هذه المؤسسة التي كانت تعاني من عجز مادي مترافق مع غياب خطّة ثقافية متماسكة؟
قبل أن أبدأ بالكلام عن ذلك، أود الإشارة إلى أنني أنظر إلى العالم العربي باعتباره عالمًا شاسعًا وكبيرًا. هو غير مقتصر على الاثنتين والعشرين دولة، بل حاضر في كلّ القارات، والمساهمات والابتكارات العربية منتشرة ؛ ثمة "عالم عربي" في إفريقيا وعالم عربي في آسيا وعالم عربي في أميركا اللاتينية وعالم عربي في أوروبا. العالم العربي هائلٌ إذاً، وتصل حدوده إلى العالمية. وفي الوقت نفسه، فإن معهدًا مثل معهد العالم العربي متفرِّدٌ ولا نظير له، ومن مهامه التعبير عن التاريخ والتراث والثقافة الخاصّة بهذا العالم العربي، ومن مهامه - في الوقت نفسه- أن يكون منتبهاً، إلى التغيُّرات والتحوُّلات الحاصلة في العالم العربي. مضت سنتان تقريبًا منذ ترؤسي للمعهد. لا أريد كيل المديح لشخصي وللعمل الذي أنجزته. لكنني ألاحظ وجود إجماع؛ فالصحافة وزوّار المعهد على اختلافهم وكذلك المختصّون والدول العربية والفرنسيون، يعبّرون باستمرار عن شعورهم الخاصّ بأن المعهد يعيش فعلًا حقبة تجديد. وفي ظنّي فإن ذلك الشعور، يعود في جزء كبير منه إلى الجهد الكبير الذي يبذله فريق العمل. فقد نجحنا معًا على ما يبدو، في ضخّ نوع من الحيوية في "البيت"، وفي خلق ديناميكية جديدة. قمنا بعقد الصلات والربط مع الأحداث والنشاطات الكبرى، ونحن نولي فعلًا الأولوية للنشاطات التي تحفزّ الحوار والنقاش كالندوات واللقاءات. أعتقد أننا نسير على الطريق الصحيح. وأظن أيضًا أن علينا الاستمرار بهذه الديناميكية وهذا الزخم، وأن نوسّع ذلك ونطوّر مجالاته. حقيقةً، وبعد مرور سنتين، أقول إنني لم أكن أظننا سنصل بهذه السرعة إلى إعادة خلق مناخ للثقّة في عمل المعهد، وفي الوقت نفسه تعبئة الطاقات والمواهب داخله. وأستطيع ضرب أمثلة عن هذا الجو من مجموعة النشاطات، كدليل على ذلك: مثل المعرض الفنّي الذي أقيم عن المغرب وثقافاته، ومعرض "مكة والحج" الذي لاقى صدى قويًا في أوساط الجمهورين الفرنسي وغير الفرنسي. أو معرض "قطار الشرق السريع". وكذلك المعرض الذي انتهت فعالياته مؤخرًا عن موسيقى الـ "هيب هوب" (من أحياء هارلم إلى شوارع الضواحي)، الذي كان بحقّ موعدًا ثقافيًا مميزًا. فضلًا عن الندوات والمحاضرات وبشكل خاصّ لقاءات "خميس المعهد"، التي رافقت كلّ هذه المعارض وشهدت إقبالًا كبيرًا من الجمهور العريض والجمهور المختص من الطلاب والأساتذة والباحثين الجامعيين والخبراء. وأطلقنا مؤخرًا تظاهرة جديدة هي "اللقاءات التاريخية عن العالم العربي"، وعرفت دورتها الأولى التي دامت لثلاثة أيام، مشاركة أزيد من مائة وخمسين مؤرّخًا ونظّمت قرابة خمسين مائدة مستديرة حول موضوع "المدينة". ورافقتها أنشطة سينمائية بالطبع وحفلات توقيع كتب، كلّ ذلك حوّل المعهد إلى "ورشة تاريخية" لو صحّ التعبير، مفتوحة على أسئلة المفكرين والباحثين والمؤرّخين المشاركين. وفي العاشر من شهر سبتمبر/ أيلول المقبل سننظّم معرضًا عن كنوز "أوزوريس المخفية"، ويليه معرض آخر مخصّص للحدائق. أمّا في المجال الموسيقي، فسوف نخصص حيزًا خاصًا للموسيقى الشبابية.
كما ترى فإن هذا التنوع في التظاهرات لدينا، هو ما عنيته حين قلت إننا أطلقنا دينامية غير مسبوقة ومرشحة للاستمرار، إذن المعهد يحيا مجدّدًا. لذا فقد بدأت جهات عدّة تقترح علينا مشاريع ثقافية وفنّية، إلى درجة جعلتنا نؤجّل بعض المشاريع المهمّة. أظن أن المعهد بدأ يحتلّ موقعه المميز في المشهد الثقافي الباريسي إلى جانب مؤسسات ثقافية أخرى مثل مركز جورج بومبيدو، ومتحف "كي برانلي" Quai Branly ومتاحف أخرى مثل متحف أورسي بل وحتّى متحف اللوفر العريق. وأشير أيضًا إلى عدد الزوّار، أعداد غفيرة "تحج" إلى المعهد، وهي لا تفعل هذا من أجل التقاط الصور من الطابق التاسع المطلّ على باريس، بل من أجل زيارة متحف المعهد ومكتبته، وحضور المعارض الكبرى واقتناء الكتب العربية والتعرّف إلى الثقافة العربية. ثمة حيوية جديدة في حياة المعهد، ونريد ونسعى إلى إشراك الجميع فيها.
*مضى على إنشاء المعهد أزيد من خمسة وعشرين عاماً، وفي الفترة الأخيرة تمّ إنشاء هيئات ثقافية تشبهه مثل متحف الـ «LE MUCEM» في مرسيليا، وكذلك افتتح قسم الفنون الإسلامية في متحف اللوفر، فضلاً عن معهد ثقافات الإسلام في الدائرة الثامنة عشرة في باريس. أين معهد العالم العربي من كلّ هذا؟
أنا مسرور جداً بوجود هذه الهيئات، ولا يمكنني التذمّر البتة، فأنا بنفسي شاركتُ - قليلاً- في ولادة أو تجديد متحف اللوفر، فقد ساهمتُ في إنشاء قسم الفن الإسلامي فيه، حين كنت في أوّل عهدي بوزارة الثقافة في يونيو/ حزيران عام 1981. فقد اكتشفتُ مجموعة الفن الإسلامي الخاصّة باللوفر موجودة أو- بتعبير أدقّ- مدفونةً في الصناديق في قصر طوكيو الذي كان بمثابة مقبرة لمتاحف فرنسا، فكلّ ما لا تريد المتاحف عرضه كان موجوداً هنا. في تلك اللحظة، اتجهتُ نحو مدير متاحف فرنسا، وليس مدير متحف اللوفر كما يُسَمّى اليوم، وهو رجل ممتاز ورائع، وسألته: لماذا هذه المجموعة موجودة هنا؟ ولماذا لا يتمّ عرضها؟ فقال لي: لا يوجد مكان يتّسع لها. وينطبق الأمر نفسه على التحف الإفريقية أيضًا. وأضاف نحن لا نستطيع عرضها في الوقت الحالي. لذا قمتُ باتخاذ ذلك القرار، الذي لم يكن سلطوياً، لكن ذا سيادة، وقابلاً للتنفيذ، فقد كنت موكلاً، وقتها، ومنشغلاً بالإشراف على بناء المعهد، فأخذت قرارًا بتقديم مجموعة الفنّ الإسلامي وعرضها بشكل مؤقَّت في معهد العالم العربي. ولمدّة حوالى خمس إلى سبع سنوات، كان جزء من المجموعة، لا كلّها بالطبع فهي مجموعة كبيرة، معروضاً في معهد العالم العربي، وهو الجزء الأجمل منها. وفي النهاية "استيقظ" متحف اللوفر إن جاز التعبير، وانتبه إلى أن هذه المجموعة تعود إليه، وهكذا فقد أقاموا- أولاً- قسماً خاصّاً بالمجموعة في قلب المتحف، وقام لاحقاً مدير المتحف اللوفر بإنشاء مكان أكبر وخاصّ بالمجموعة الإسلامية. إذاً، لا، ليس بإمكاني التذمُّر ألبتة، بل على العكس أنا سعيد، وهذه المؤسَّسات لها منظورات مختلفة عن المعهد، ولكننا نتكامل معاً.
* لكن ماذا عن المشاكل الهيكلية التي لم تجد حلًا لها بعد، من قبيل التمويل وإعادة التنظيم الداخلي لأقسام المعهد؟
طبعًا لا زالت العديد من القضايا قيد الدرس. يبقى أهمّها مشكلة التمويل وإعادة صياغة تنظيم داخلي جديد. الخطوة الأولى التي قمت بها، أنني بادرت باتجاه البلدان العربية وذلك من أجل طمأنتها واستعادة ثقتها، ضمن جو من الحوار والاحترام المتبادل. كانت الدول العربية سابقًا تساهم بميزانية سنوية. لكن ذلك توقّف منذ حوالى خمسة عشر عامًا. أمّا اليوم، ففرنسا وحدها تساهم في تمويل ميزانية المعهد، وفي تسيير أموره. هذه الميزانية التي تقارب الاثني عشر مليون يورو سنويًا، لم تعرف زيادة تُذكر. بل إنها تتناقص بسبب تخفيضات الموازنة التي تطول جميع قطاعات الدولة الفرنسية. الأنشطة والتظاهرات التي ذكرتها لك توًا، موّلتها وزارة الخارجية الفرنسية. التمويل العربي غير موجود. ومنذ عدّة سنوات أنشئ صندوق للتمويل، يتيح لنا تغذية الميزانية بفضل مساهمات عدّة دول عربية، ويتيح لنا أيضًا الاستثمار بنسبة ضئيلة، تمكننا من إضافة مليون يورو تقريبًا إلى ميزانية المعهد. وبعد ذلك كلّه، يقع علينا عبء خوض المعركة لإنجاح كلّ مشروع على حدة، من أجل الحصول على تمويل للمشاريع الثقافية. وأضرب مثالًا عن ذلك، فقد موّلت الشركة الوطنية الفرنسية للسكك الحديدية، معرض "قطار الشرق السريع". وموّلت مكتبة الملك عبد العزيز في الرياض بشكل جزئي معرض "مكّة والحج". أمّا المعرض عن المغرب العربي وثقافاته، فقد استطعنا الحصول على دعم مادي ومعنوي من العاهل المغربي محمّد السادس. وقد فتح هذا التمويل باب التطوع لدعم أوسع، شاركت فيه كبريات المؤسسات البنكية والصناعية بالمغرب. كلّ المشاريع الثقافية التي نضعها اليوم على طاولة البحث، يتوقّف إنجازها على نظام الرعاية والتمويل الذاتي الخاص. أي إننا نفكّر في العديد من المشاريع، إلا أن إنجازها وتحقيقها يرتبطان فعلًا بالتمويل. وهذه المشاريع تهتم بمناحٍ شتّى منها؛ اللغة العربية، العرب والبحار، وطريق الحرير وغيرها.
* وهل تلقي الأحداث الحاصلة في العالم العربي بظلالها على الأمر؟ وهل أثّر ذلك في تمويل المعهد من قبل تلك الدول، سواءٌ أكانت من الدول الغنية أم لا؟
سأضرب مثالًا عن ذلك ليبيا. قبل أن يتدهور الوضع هناك، حوّلت الحكومة الليبية للمعهد المستحقات المتبقية. وقام العراق بالخطوة نفسها. وفي الظرف الراهن من الصعب أن نطلب من هذين البلدين أن يقوما بجهود إضافية. لكننا نسعى، في ما يخصّ دول الخليج، على تحفيزها من أجل نهج سياسة انفتاح ثقافي على الحياة الثقافية في فرنسا خصوصًا، وفي أوروبا بصورة عامة، وصولًا إلى الغرب بشكل أوسع. فالمعهد يؤدّي دور الجسر الذي يربط بين هذه الجغرافيات الثقافية التعددية. إلا أن هذا التحفيز يشترط أيضًا المستوى المهني والاحترافي العالي وكذلك جودة الإبداع الثقافي. يلفت نظري أن دول الخليج تحوّلت اليوم، إلى ورشة للإبداع الفنّي والثقافي. ففي الرياض وأبو ظبي والدوحة وغيرها من عواصم الخليج، ثمة حيوية ثقافية لا تقلّ أهمية عمّا يحدث في باريس ونيويورك ولندن وروما. فقد أدركتْ هذه الدول أن للثقافة قيمة رمزية لا تضاهى. ونحن نسعى من خلال مدّ الجسور مع هذه الدول، إلى خدمة الثقافة العربية في المقام الأوّل، لكن ليس بالمعنى الضيق لتعبير "خدمة" بل بالمعنى الكوني. ومن المؤكّد أن ما يحصل من أحداث في بعض الدول العربية، ينعكس علينا وعلى سياستنا الثقافية سواءٌ بشكل مباشر أم غير مباشر. لأن ما يحصل يتطلّب منا اتخاذ مواقف ثقافية وأخلاقية من العنف ومخلفاته. ونحاول عمل ذلك، من خلال الندوات الفكرية أو المنتديات التي أطلقناها مؤخرًا مثل منتدى عن حركات التجديد العربي، أو من خلال اللقاءات التاريخية للمعهد أو لقاءات الخميس التي تجمع خيرة الباحثين والمفكّرين من أنحاء العالم.
* أصبحت لشبكات التواصل الاجتماعي سلطة نافذة في جميع المجالات. كيف يتم تسخير أدواتها لخدمة الثقافة؟
نعمل على استقطاب الطاقات الشبابية لتحفيزها على ثقافة الإبداع والابتكار ولجعلها عناصر إبداعية. ولأجل ذلك نجنّد جميع وسائل التكنولوجيا الإعلامية. وسنطلق في مستهلّ العام القادم موقعًا جديدًا للمعهد، ستكون له القدرة على التفاعل الفوري مع أنشطتنا ومع أنشطة شبيهة بها. لكن منصة الموقع يجب أن تكون بدورها جسرًا لخلق شراكات وتفاعلات متعدّدة كفيلة بإدماجنا ضمن شبكة إعلامية كبرى، تشمل العالم العربي وعوالم أخرى، وحلقات وصل واتصال جديدتين. إنه رهان يجب أن نخوضه، لأنه رهان مصيري، يتوقّف عليه مصير الثقافات العربية. ويجب التذكير أن التغيير الذي تشهده المجتمعات العربية يرجع الفضل فيه إلى شبكات التواصل الاجتماعي، فقد أصبحت بمثابة مؤشر عن كلّ ما يحدث في الوطن العربي. ويجب الاعتراف بدور المرأة في هذا المجال أيضًا. إذ إن شبكات التواصل الاجتماعي بـ "صيغة المؤنث" لها خصوصيتها وخطابها وأهدافها. ونحن نهدف بصورة عامّة إلى أن يكون للمرأة العربية صوتها القوّي ضمن أنشطتنا وبرامجنا. ذلك لأن التغيير أصبح يتوقف على المرأة. ولقد سبق ونشرت كتابًا بعنوان: "غدًا، النساء".
* وماذا عن ثقافات "الضواحي" المنسية والمهملة في فرنسا؟
أنا حريص شخصيًا على إدخال الضواحي إلى البرامج الثقافية في المعهد. لكي يصبح هذا الأخير خزّانًا ثريًا وممتلئًا بالطاقات الشبابية من أصحاب الإبداعات المميّزة. فالمعرض الذي احتضنه المعهد واستمر إلى نهاية يوليو/ حزيران المنصرم، عن موسيقى الهيب هوب ولاقى نجاحًا كبيرًا، لهو خير دليل على ذلك. وثمة روائيون متحدّرون من الضواحي، وجعلوها مادّة روائية مميزة في كتاباتهم. أذكر منهم الروائي الشاب رشيد جعيداني أو فايزة غين أو مبروك راشدي وغيرهم. نحن نرغب في نزع النظرة الدونية العالقة بالضواحي وبثقافتها، وهي نظرة ناجمة عن رواسب الخطاب السياسي. في كلّ المجالات مثل الموسيقى، والفنّ وجميع أشكال الثقافة، يعدّ "أبناء الضواحي" عاملاً حيويًا أساسيًا، ولا معنى للثقافة الفرنسية من دونه. أمّا الذين يختزلون الضواحي في سلوك العنف والتطرّف، فإنما يفعلون ذلك من باب المزايدة السياسية. بينما تزخر الضواحي بطاقات هائلة تحتاج إلى الاعتراف بها، وردّ الاعتبار لها. الإدماج بالمشاركة هو البرنامج الذي يجب أن يعمل عليه رجالات السياسة والثقافة معًا.
* يقودنا هذا إلى السياسة قليلًا، فقد كنت وزيرًا للثقافة أثناء حكم الرئيس الراحل فرانسوا ميتران. وكانت فرنسا تعيش زخمًا ثقافيًا في جميع الميادين. ماذا عن اليوم؟ أقصد هل من سياسة ثقافية لليسار الفرنسي اليوم؟
سعيت أثناء حكم ميتران إلى إقامة علاقات ثقة مع المثقفين من دون تسخيرهم لمآرب سياسية. على أي حال، كان من الصعب استقطاب المثقفين بحكم قوّتهم النقدية. وكانت إحدى مهامي الإنصات إلى خطابهم ومطالبهم، سواء أكانوا فنانين أو باحثين أو رجال علم. وأفضل شيء يمكن عمله اليوم، هو إشراك كلّ الفعاليات في بناء سياسة ثقافية جديدة. أتحدّث هنا عن المثقّف بمعزل عن انتمائه الفكري أو السياسي. ومن المؤسف اليوم أن مصطلحات مثل: ثقافة وعلم وذكاء وعقل، انسحبت من الخطاب السياسي وسادت بدلًا منها مفاهيم أخرى مثل: المردود، العجز، المديونية، أي مصطلحات من الخطاب الاقتصادي الذي لا يهمه سوى "الرجل الاقتصادي". المشروع اليساري بالنسبة لي هو مشروع حضاري، وثقافي لا مشروع "ميركانتيلي" أسير منطق السوق والعملات والمزايدات.
* أثناء حكم فرانسوا ميتران أيضًا أقيمت صروح كبرى، مثل القوس الكبير، وأوبرا الباستيل، ومتحف اللوفر الكبير، والمكتبة الوطنية أي مكتبة فرانسوا ميتران على سبيل المثال. هذه الصروح الثقافية متميّزة بعمارتها، ونعلم أن المعماري الفرنسي جان نوفيل هو الذي صممّ مبنى معهد العالم العربي، ربّما تستطيع أن تحدّثنا عن ذلك؟
في البداية أنا مسرور جداً بهذا، وصحيح أن جان نوفيل هو المصمّم المعماري لمعهد العالم العربي، لكنّه لم يكن معروفاً البتة وقتها. وأذكر تماماً أنه عندما كنا – بالتوافق مع الرئيس فرانسوا ميتران – في صدد استدراج عروض من أجل بناء المعهد، قرّرنا ألا نتوجه إلا لمعماريّين شبّان، وكان يوجد حوالى (دزينة) من المعماريين الشباب أعمارهم في الثلاثينيات. وقد كان هذا خروجاً عن العادة المتّبعة والسائدة، إذ عادةً ما كانت الدولة تتوجّه نحو "معماريين كبار ومعروفين ومُكَرّسين" ومن الحائزين على الجوائز المرموقة. حين وقع الاختيارعلى جان نوفيل، لم يكن معروفاً أو مشهوراً أبداً وقتها. وأنا سعيد جداً بأن الأمر لَقِيَ نجاحاً كبيراً، خاصّةً وأن نوفيل أصبح نجماً عالمياً. وينطبق الأمر نفسه على بيي IEOH MING PEI، ولو أنه ليس فرنسياً، فهو مصممّ الهرم الزجاجي في متحف اللوفر. وكذلك ڤيلموت JEAN-MICHEL WILMOTTE، المصمّم الشاب وقتها، الذي ساهمت في التعريف به وفي إطلاقه أثناء حكم الرئيس فرانسوا ميتران، وأذكر أننا وقتها أوكلنا إليه مهمّة تصميم الديكور للشقق الخاصّة برئاسة الجمهورية الفرنسية.