جابر عثرات الكرام

11 سبتمبر 2018
+ الخط -
كان في الجزيرة رجلٌ يُدعى خزيمة بن بشر الأسدي، وكان مفضالاً فأتلف الجود ماله، (ولولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال)؛ فواساه أهله حينًا ثم ملُّوه؛ فلما رأى المِلالة منهم لزم بيته حتى يأذن الله له بخيرٍ أو يموت.

واتفق أن ولي الجزيرة رجلٌ يقال له عكرمة الفياض؛ فسأل عن خزيمة يومًا وعلم ما كان من شأنه، ثم أمر خادمًا يثق فيه أن يقصد منزل خزيمة في فحمة الليل بأربعة آلاف درهم؛ فقرع الباب وخرج خزيمة فقال له: أنت خزيمة بن بشر؟ قال: نعم أصلحك الله. قال: خذ هذا فأصلح به من شأنك؛ فتناول منه الكيس وقال: من أنت جعلت فداك؟ قال: ما جئتك في ذا الوقت وأنا أريدك أن تعلم من أنا! فأخذ بعِنَان فرسه وقال: ما كنت لأقبل معروف من لم أعرفه؛ فأبى عكرمة وألحَّ عليه خزيمة فقال: أما إذ أبيت فأنا جابر عثرات الكرام، قال: زدني جعلت فداك؛ فقال: ما عندي غير ذلك، وجذب عِنان فرسه وانصرف.

دخل خزيمة بيته فقالت زوجته: من طرق بيتنا الساعة؟ قال: لقد أتانا الله بخيرٍ عظيم، فإن كانت فلوسًا (جمع فِلس) فهي كثيرة؛ فهل إلى سراجٍ من سبيل؟ قال: لا والله، مالي إليه من سبيلٍ ولا أقدر عليه؛ فحلَّ الكيس ولمس خشونة الدنانير، فلم يصدِّق لكثرتها، وبات بليلةٍ طويلة.


أما عكرمة فقد رجع إلى منزله، وقد سألت عنه زوجته وهي ابنة عمه؛ فقيل لها: ركب وليس معه أحد بغير ضوءٍ ولا سراج؛ فقالت: أمير الجزيرة يركب في مثل هذا الوقت على مثل هذه الحالة؟! والله ما ركب إلا لجاريةٍ اشتراها أو امرأة تزوجها، وبكت وشقت ثوبها ولطمت وجهها. فدخل عليها وهي على تلك الحال فقال: ما وراءك؟ فلم تزل به حتى أخبرها الخبر.

لما تقوض الليل، خرج خزيمة إلى السوق؛ فأصلح من شأن بيته، ثم قصد الخليفة سليمان بن عبد الملك، وكانت له حرمة متقدمة عنده، ولما دخل عليه وسأله عن تأخره في القدوم إليه، أخبره خبر جابر عثرات الكرام؛ فقال سليمان: والله لو عرفنا من هو لجبرنا منه أضعاف ما جبر منك، ثم دعا بقناةٍ وعقد له على الجزيرة، وأمره بالخروج إليها؛ فقيل لعكرمة: قد ولي خزيمة بن بشر البلد، قال: بارك الله له فيها.

ولما قرُب خزيمة من الجزيرة، خرج الناس للقائه ومعهم عكرمة؛ فأمر خزيمة حاجبه أن يمنع عكرمة من الانصراف، فحبسه عنده سائر يومه، وفي اليوم التالي أمر بمحاسبته؛ فوجد عليه مالًا كثيرًا فقال له: أدِّ هذا المال؛ فقال: ما هو عندي، أصلح الله الأمير! ولا أقدر عليه؛ فأمر به إلى الحبس وضيَّقَ عليه ووضعه في الحديد حتى أجهدَه الأمر وبلغ منه الضرُّ.

واتصل خبر عكرمة بزوجته؛ فدعت جارية ذات عقلٍ وأدب، وقالت لها: امضي إلى باب الأمير، وقولي للحاجب: عندي نصيحةٌ إلى الأمير تسرُّه، وما أخبر بها إلا الأمير؛ فإذا دخلتِ إليه فقولي: هذا جزاءُ جابر عثرات الكرام منك؟ فبئس ما جزيته وكافيْتَه بالحبس والضِّيق والحديد.

فلما فعلت قال: واسوأتاه! وكأنَّه هو؟ قالت: إي والله. فأمر من وقته بدابته فأُسرِجت، وبعث إلى وجوه أهل البلد فجمعهم، وأتى بهم إلى باب السِّجن، ودخلوا على عكرمة فلما رآهم احتشم ونكس رأسه، وارتخت عيناه بالدموع. فقال خزيمة: واسوأتاه من الله ومن الناس! قال عكرمة: وما سبب ذلك: قال كريمُ فعلِكَ وسوء مكافأتي. قال عكرمة: يغفر الله لنا ولك.

أبى خزيمة إلا أن يخدم عكرمة بنفسه، وتذمَّمَ من زوجته واعتذر منها؛ ثم خرج مع عكرمة إلى الخليفة، وأخبره بتمام قصته، وأحسن الخليفة إليه وأجزل عطاءه.

تدمع عيناي كل مرةٍ اقرأ فيها قصة عكرمة الفياض، واعجب لتفكير المرأة في تفسيرها سبب خروجه تحت جناح الظلام، ثم أبتسم لأن غيرتها وشكها كانا سببًا في خلاصه من نكبته، ولن يضيع جميلٌ أينما زرعا.
دلالات