أنا جابر بن حيّان، أبو الكيمياء وصاحب بلاط العناصر. اعتزلت الآخرين كما اعتزل شيخي أبو العلاء النّاس.. نفاني الملك المعظم إلى هذا البيت القديم. إنّي وحيدٌ حتى الثمالة، لا أرى أحدًا سوى الحارس المسؤول عن تأمين طعامي وحبسي.
نفاني الملك قبل أن أتمكن من تحويل التراب إلى ذهبٍ، لأنّ حسّادي اتهموني بأنّ علمي دليل الشرك بالله! فمن أنا حتى أشرك بالمطلق؟ أطاعهم الملك المفدّى رغم أنّه لا يقل كفرًا عنّي. كنت قد اقتربت من تحويل التراب إلى ذهبٍ في المعمل الكبير في قبو جلالته. لم أكن آبه بالذّهب، ولو كنت أطمع به لهربت بثيابي فقط، فعلمي في صدري كالنّقش المذهّب على خاتم مولاي.
بقيتُ إذن، إذ إنّ ملايين الجوعى من المسلمين قد ينالهم بعض فتات جلالته. أعلم أنّ جبل ذهبٍ في جيب الحاكم لا يُسقِط سوى النّتف، لكن ما الذي أملكه سوى شغفي بالخلق، وشفقتي على الآخرين؟
أنا وحدي، أستطيع الهرب إذا أردت، فلقد اكتشفت ممرًا سرّيًّا تحت البيت يؤدي إلى الخارج. لكنّي لم أفكر بالهروب أبدًا، لا خوفًا من عقابٍ، أو تقليدًا لسقراط، بل حبّا بزنزانتي، بهذا البيت الصّغير.
اعتزلت الآخرين كما اعتزل شيخي أبو العلاء النّاس. نعم... "كم سيتعلم العلماء لو أصغوا إلى الشعر!"، كما سيقول أحدهم ذات يوم.
لا يعلم الحاكم أنّي تمكنت قبل سنواتٍ من تحويل التّراب إلى ذهبٍ. كان بيتي يعجّ بولع الملوك هذا، لكنّي أكره هذا اللّمعان الكافر، أحبّ التراب أكثر، أشعر بالأٌخوّة معه في هذا الفراغ الهائل.
لا بدّ من مؤنس يؤنس وحدتي، قضيت آخر سنواتي عاكفًا على تحويل التراب الى شيءٍ أثمن من الذهب... أردت تحويله إلى إنسان، إلى جسدٍ حيٍّ ينبض بالمشاعر والأفكار، يقول لي "صباح الخير"، يشتمني، يحّبني ويكرهني. فأنا كنت أكره جنديّ السّلطان كما أكره السّلطان وسيفه.
سألت نفسي: "هل أحوله إلى امرأةٍ أم إلى رجلٍ؟" أريد ابنًا، لن أقوى على امرأةٍ لعوبٍ تصنع من لحيتي الطويلة أرجوحةً، أردت ابنًا يحمل اسمي، أعلمه الكيمياء، وأدلّه على باب السرداب حتى يعمّ النّور الأمكنة.
كان عليّ أن أزرع التراب في رحم الأرض تسعة أشهر، مزجته ببعض الذّهب، فلقد علّمنا المعلّم أفلاطون أنّ طين الفلاسفة يمتزج بالذّهب.
* * *
ثمّ أصبح أمامي، ذهبي الوحيد. في البدء كنت مزهوًا بخلقي، كلما نطقت اسمه يلبّى النداء: "أمرك أبي".
شعرت أنّي طاووسٌ في غرفةٍ مليئةٍ بالمرايا. أسميته حيّان، علمّته الكيمياء، وأبعدته عن الذّهب.
كنت أشاهده يكبر كلّ يومٍ أمامي، كان يكبر بسرعةٍ كلهب المعادن. شعرت أنّ عنصرًا جديدًا أٌضيف إلى جدول العناصر، وفرحتي كانت فرحة مكتشفه.
لكنّه بدأ مع الوقت يكره اسمه، أصبح يطيل انتظاري حين أناديه، وحين يجيب كان يجيب بتذمرٍ وبتأففٍ يثقل صدري. أصبح يقضي الوقت يقلدني، حوّل غرفته إلى معملٍ كمعملي، وقبضت عليّه أكثر من مرةٍ وهو يدرس تجارب الذّهب التي حرّمها على نفسه.
أراد الاسم كاملًا، حين كان الحارس الغافل ينادي: "تعال أيّها الخيميائي خذ الطّعام".
كان هو من يلبي النداء. ولم يشكّ الحارس أبدًا، فولدي يشبهني كثيرًا، ولا شكّ أنّه أعزى الشّباب لخلطة عناصر سحريّةٍ.
بدأ الأمر يضايقني، فلا أحد يرضى أن يُسرق اسمه أمامه، ولو كان السّارق ولده الوحيد.
فكرت أن أنهي حياته، لكنني من جنى عليه منذ البداية فكيف أُحمله جنايتي؟ ماذا أفعل؟
تحدثت طويلًا معه، قلت له عليك أن تقتل اسمي وتعثر لك على اسمٍ جديدٍ. أرشدته إلى الممر السّريّ وسمحت له بالهروب، لكنّ ولدي كان يشبهني أكثر مما ظننت!
ذات ظهيرةٍ نادى الحارس: "جابرٌ أيّها الخيميائيّ"، فقام هو. كان في السّابق يقوم ببقايا خجلٍ تلمع في جسده، بينما يقوم الآن دون أن ترفّ له عينٌ. قمت لأردّ فمنعني قائلًا: "أنا جابر بن حيّان، الكيميائيّ الكبير وصاحب بلاط العناصر، فمن أنت حتى ترد؟"
كان علينا أن نتقاتل طويلًا... كان قويّا، لكنّ خبرته في المبارزة لم تعادل خبرتي. كان صليل سيفينا عاليًا جدًا، ودهشت حين تذكرت الأمر لاحقًا كيف لم يدخل الحارس إلى المنزل؟
وبعد معركتي مع ولدي الحبيب، ها أنا أكتب هذه المخطوطة. لكن حتى الآن لا أعرف من انتصر، أيّنا جابر الحقيقي؟ أيّنا مات في المعركة؟ "ومن منا يكتب هذه المخطوطة؟".
* كاتب فلسطيني/ القدس المحتلة