على مدى أسابيع قليلة من انتشار فيروس كورونا في فلسطين التاريخية، استمرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي باتباع سياسات واتخاذِ إجراءات استعمارية وعنصرية بحق الفلسطينيين فيها وفي القدس والضفة الغربية. هذه سياسات ليست مفاجئة أو غير متوقعة في ظلّ الجائحة، فإسرائيل كيانٌ قائم بالأصل على أساس من "النقاء العرقيّ" للمستعمِر، والشعورِ المستمر بالتهديد من قِبَل "الآخر" غير المرغوب فيه، المستعمَر، والذي بدا لإسرائيل وكأنه يشكّل "عبئاً" إضافياً عليها، بالإضافة إلى عبء تفشّي كورونا.
جائحة استعماريّة مستمرّة
يمكن قراءة سياسات الاحتلال في ظل جائحة كورونا ضمن ثلاثة محاور؛ أولها: الاستمرار بإجراءات القمع والتنكيل بحق الفلسطينيين في القدس وفي فلسطين ككل، من بين ذلك الاستهداف بالقتل، حيث تم مؤخراً إعدام الشاب سفيان الخواجا قرب حاجز نعلين غرب رام الله. وفي الوقت الذي تقوم فيه العديد من الدول بالإفراج عن المعتقلين، منعاً لتفشّي الوباء بينهم، تستمر سلطلات الاحتلال بمداهمة واعتقال الفلسطينيين، الملتزمين أصلاً بتعليمات السلطات في الضفة وغزة والقدس وفلسطين المحتلة عام 1948، بالانعزال في بيوتهم. يتم تنفيذ سياسات الاعتقال هذه في ظل وصول عدد المصابين بالوباء في إسرائيل إلى 2170 حالة، وذلك حتى تاريخ كتابة هذا المقال، مقابل 62 حالة في أراضي السلطة الفلسطينية.
يطرح الاستمرار بالاعتقالات السؤالَ ليس فقط عن جدوى الاعتقال في هذه المرحلة التي تقلق العالم برمّته وتتطلب منه تركيز الجهود نحو محاربة الوباء، وتُلزِم سكانَه، ومن بينهم الفلسطينيين، العزلَ في بيوتهم، بل السؤال المطروح، الإنساني والمشروع، هو أيضاً عن خضوع الجنود والمحقّقين الإسرائيليين لفحص كورونا قبل مخالطتهم لمن يتم اعتقالهم والتحقيق معهم من الفلسطينيين.
يضاف إلى سياسات القتل والاعتقال؛ تنفيذ هدم منازل في كفر قاسم، وجرفُ أراضٍ زراعية وإبادةُ محاصيل في النقب، وظروف استعبادِ العمال الفلسطينيين، لعلّ أسوأ مظاهرها، إلقاء سلطات الاحتلال لعمّال فلسطينيين يعملون في إسرائيل قرب الحواجز العسكرية، بعد الاشتباه بإصابتهم بفيروس كورونا.
التوظيف الاستعماريّ للجائحة
يتلخّص المحور الثاني في ما يمكن تسميته بالتوظيف الاستعماريّ للأزمة العالمية الحالية؛ يتخذ هذا التوظيف أشكالاً عدة، من بينها ممارسات إجرائية على الأرض، مثل قيام الشرطة الإسرائيلية باستغلال أنظمة الطوارئ التي فرضتها الحكومة الإسرائيلية في ظل جائحة كورونا، وذلك بفرض غرامات على عدد من المقدسيين، كانوا في طريقهم إلى الصلاة في المسجد الأقصى (قبل إغلاقه منذ أيام قليلة). ومبلغ الغرامة هو 5000 شيكل (حوالي 1400 دولار أمريكي)، ما يساوي تقريباً راتب شهر كامل لعاملٍ في القدس، ما دفع أحد المحامين في القدس إلى الإعلان، على صفحته على فيسبوك، عن تقديم المساعدة القانونية المجانية لمن تم تغريمهم، قائلاً: "أنا مع الالتزام بالحجر الصحي من أجل سلامتنا بالأساس، ولكن ضد استعمال القانون لزيادة اضطهادنا وقمعنا".
يتخذ التوظيف الاستعماريّ للأزمة أشكال أسرلةٍ دعائيّة تهدف إلى تعزيز الهوية الإسرائيلية للمكان المقدسيّ، وتروّج صورةً لإسرائيل "حضارية" و"إنسانية و"متعاطفة" مع العالم؛ ومن ذلك عرض بلدية الاحتلال العلمَ الإسرائيلي على أسوار البلدة القديمة بالقدس، بالتقنيات الضوئية، تصاحبه جملة ضوئية بالعبرية ترجمتها "أروشليم تشدّ أزرَ شعب إسرائيل"، وأخرى بالإنكليزية ترجمتها "إسرائيل تقف جنبا إلى جنب مع العالم". تحيل الجملتان إلى مستويين من الخطاب، الأول داخليّ يستهدف "شعبَ إسرائيل"، وينفي الوجود العربيّ الفلسطينيّ القوميّ في القدس، فلا وجود لجملة بالعربية تخاطب الفلسطينيين، وكأنهم خارج جغرافيا المكان وأزمةِ الجائحة، والمستوى الثاني خارجيّ يستهدف العالم.
النفي والاستخباريّة والعسكريّة
يتلخّص المحور الثالث، الذي يمكّن من قراءة الأداء الصهيوني في ظل جائحة كورونا، في طبيعة إسرائيل ككيان قائم على عنصرية تنفي وجود الآخر، وعلى الحلول العسكرية والاستخبارية، وهكذا تعاملت إسرائيل مع الفلسطينيين فيها وفي فلسطين التاريخية في ظل كورونا، أي بسياسات عنصريةٍ تتجاهل وجودهم، وبحلول عسكريّة واستخباريّة.
هناك أمثلة كثيرة على التجاهل الإسرائيلي للوجود الفلسطيني في إسرائيل، ومن أبرزها، في ظلّ كورونا، ما اتضح في سلوك وسائل الإعلام الإسرائيلي تجاه جهود الأطباء الفلسطينيين في إسرائيل في مكافحة الوباء؛ فبعدما خرج الإسرائيليون إلى شرفات منازلهم يصفّقون تحيةً للطواقم الطبية الإسرائيلية، وتقديراً لجهودها في مكافحة كورونا، ضجّت صفحات التواصل الاجتماعي تذكّر الإسرائيليين بأن نسبة كبيرة من طواقم الأطباء والتمريض والصيدلة والمختبرات الطبية هي من الفلسطينيين (من مواطني إسرائيل وسكان القدس)، وتحتجّ ضد الإعلام الإسرائيلي الذي يتجاهل جهودهم ومساهماتهم. تفاعل الفلسطينيون في إسرائيل بإيجابية مع هذه الدعوات، ونادى الكثيرون منهم بالانضمام إلى مبادرة التصفيق.
استعدّت القنوات الإسرائيلية لبثّ هذه التحية تجاه الطواقم الطبية، فنُصبت كاميرات في عدة مدن داخل إسرائيل، ولكنها تجاهلت المواطنين من الفلسطينيين ولم تبثّ من أي بلدة أو مدينة عربية في إسرائيل. يعلّق عمر الغباري، الناشط والمختص في شؤون النكبة والبلدان المهجّرة، على الحدث قائلاً: "ومرة أخرى يُغيّب العربي الفلسطيني "الإيجابي" عن الشاشات وعن الذهنيّة الإسرائيلية، وذلك رغم حملات الاحتجاج الأخيرة ورغم العدد الكبير للمطبّبين العرب في المستشفيات الإسرائيلية.. وفي حالتنا، الفلسطينيين في الداخل، لن يعطينا القامع العنصري الصهيوني اعتبارنا ولن يقدر على ذلك. فالقضية ليست قضية عدد وحضور في مستشفياتهم وجامعاتهم ولا حتى في برلمانهم، إنها قضية فكر وأيديولوجية متجذّرة في الفكر الاستعماري الصهيوني.. لن تتحقق المساواة بالاندماج ولا حتى بالانصهار في دولة اليهود. إسرائيل لا يمكن أن تكون دولة غير عنصرية، لا يمكن، هي معرّفة كذلك وأقيمت لتكون كذلك. والنضال من أجل المساواة تحت مظلّتها وبأدواتها هو مضيعة للوقت والطاقات وذرّ الأوهام في العقول".
الشاباك يحارب كورونا!
أما على الصعيد الأمنيّ والاستخباريّ، فسرعان ما صار لما يعرف بالجهاز الأمني الداخلي "الشاباك" دور رئيس في "مكافحة" كورونا، إذ أقرّت إسرائيل إجراءات جديدة تسمح للشاباك بالتجسّس على هواتف المواطنين بالتنصّت على مكالماتهم بهدف "احتواء انتشار الوباء". ما اعتبر سابقة في تاريخ إسرائيل، إذ لم يسبق أن تولّت الأجهزة الأمنية والاستخبارية فيها القيام بمهام خارج الإطار العسكري والأمني، وما أثار جدلاً ومعارضة في إسرائيل نفسها؛ اعتبرت تهيلا شوارتز التشولة، من المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، الاستعانة بجهاز الأمن الداخلي في أزمة صحية "سابقةً خطيرة". أما أفيز بينشوك، خبير الخصوصية في جمعية الحقوق المدنية في إسرائيل، أعرب عن انزعاجه من الطريقة التي يستخدمها "الشاباك" لكشف المصابين بفيروس كورونا، وعبّر عن خشيته من استخدام الأمن العام الإسرائيلي القدرات التقنية والتكنولوجية التي في حوزته في انتهاك خصوصية الإسرائيليين. في حين رأى مايكل برهناك، أستاذ القانون في جامعة تل أبيب أن "أزمة الفيروس تحولت إلى قضية أمنية".
وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن تدخّل الشاباك، صاحب التاريخ القمعي وذي السمعة السيئة بينهم، يعتبر أمراً في غاية الخطورة، ويثير لديهم رفضاً شديداً ومخاوف جدّية من استغلال هذا الجهاز للأزمة بهدف استهداف الفلسطينيين وخصوصياتهم، وتوظيف ذلك لما بعد الأزمة.
على الصعيد العسكريّ؛ باشرت الشرطة الإسرائيلية وقوات حرس الحدود، منذ الأسبوع الماضي، في إجراءات تقسيم عمليّ على الأرض في القدس، فأقامت العديد من الحواجز على ما تبقّى من الخط الأخضر، وأعادت العديد من المواطنين الفلسطينيين إلى الشقّ الشرقي المحتل من القدس، بحجة منع انتشار فيروس كورونا. وتبرّر مصادر سياسية إسرائيلية سعيَ السلطات إلى منع الاحتكاك بين شقّي القدس، بقولها إنها لا تسيطر على الأوضاع في القدس الشرقية، ولذلك اختارت هذا التقسيم، وتؤكد أنه على الرغم من أن القرار اتخذ من المستوى السياسي الأعلى، أي الحكومة، بالتنسيق مع قادة الأجهزة الأمنية، فإنه لا يحمل طابعاً سياسياً بعيد المدى، وأن الحواجز لن تمنع مئات الفلسطينيين الذين يعملون في مجالات حيوية في القدس الغربية، ومن ضمنهم أطباء وممرضات، من الاستمرار في العمل هناك.
كما أن أنظمة الطوارئ التي فرضتها السلطات الإسرائيلية تتيح لها التصرف بعيداً عن مراقبة السلطات القضائية بحجة كورونا. فتجري قوات الشرطة وحرس الحدود والمخابرات عمليات تفتيش وتنكيل في عدة مناطق في القدس العربية المحتلة، وتعرقل وتقيّد عمل الجمعيات والحركات الاجتماعية والسياسية. بالإضافة إلى إجراءات تهدف إلى العزل التام لأحياء القدس عن محيطها في الضفة الغربية، ومنع المقدسيين من حمَلة الهوية الإسرائيلية، ممن يعيشون خلف الجدار، من دخول المدينة، وكذلك منع المقدسيين من داخل المدينة من التوجه لمناطق السلطة الفلسطينية.
أخيراً، لا شك في أن جائحة كورونا تمثّل مرحلة حرجة في العالم ككل، قد تأتي بتغيرات عالمية نوعية على مستويات عدة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لكن هذه المرحلة، مع عظمة خطورتها وعمق تأثيراتها، إلا أنها لا تعني أبداً أن نتوقّع "إسرائيل أخرى" مختلفة خلالها وفي ما بعدها؛ إن إسرائيل كيان قائم على أوتاد إن سقطت فقد انتفت الجدوى من وجوده، أبرزها القمعية العسكرية والاستخبارية الهادفتان إلى "حفظ أمن إسرائيل"، وهو وتدٌ يستند بدوره إلى الشعور المستمر بالتهديد من الوجود العربي والفلسطيني، وبالتالي عزله وتهميشه ونفي وجوده الهوياتيّ.
غير أن الرعب الإسرائيلي يبدو كأنه يتعاظم في ظل الجائحة، وذلك من "كورونا الفلسطينية"، أي من نقل الوباء من المناطق الفلسطينية إلى الإسرائيلية، ما وجد تعبيراً عنه في التسريع بإجراءات العزل والحصار، رغم أن عدد الحالات المصابة بالفيروس في إسرائيل يفوق بكثير عدد الحالات المصابة به في الأراضي الفلسطينية. هذا الرعب آتٍ بالأصل من رؤية استعمارية استعلائية عنصرية تجاه "الآخر"، تجاه شعب كامل مأسور منذ سنوات داخل الجدران والحواجز، ويعاني من ضعف البنية التحتية ويفتقد إلى الجهوزية التي تمكّنه من مواجهة الأزمة. هذا بالضبط ما تخشاه إسرائيل، من تفشّي الوباء بين الفلسطينيين، لإدراكها ضعف قدرتهم واستعدادهم لمواجهته، سواء أكانوا ممن يقيمون في البلدات العربية فيها أم في القدس أم في الضفة الغربية، فيصبحون بالتالي "خطراً" و"عبئاً" إضافيّيْن عليها.