ثوّار المدرجات

12 يناير 2015
مظاهرات داعمة لاستعراضات "ألتراس" (Getty)
+ الخط -
لطالما حرص بوتين على إبهار العالم بنظامه. إذ عكست عشرات اللوحات الخلابة التي نفذها طلاب ورياضيون روس، طموح الأخير في استعادة هيبته وقوته. لم تكن تلك المرة الأولى التي يستخدم فيها النظام الروسي الرياضة، لإيصال رسالة سياسية معينة.

فعلها الاتحاد السوفييتي أيام الرئيس السابق، بريجينيف في إحدى أشهر الألعاب الأولمبية. خرج بريجييف حينها على وقع النفخ في الأبواق كقيصر روماني، ليحيي 90 ألفاً هتفوا للنظام.

اعتُبر أولمبياد الاتحاد السوفييتي تحدياً حقيقياً للدولة، بعدما أعلنت الولايات المتحدة بالإضافة إلى أكثر من دولة نيتها مقاطعته. أتت المقاطعة على خلفية احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان حينها.

في السياق نفسه، تميّز نظام كوريا الشمالية بالاستعراضات المنظمة للآلاف من الطلاب. الاستعراضات التي انطلقت منذ تزعم كيم إيل سونغ الدولة تبهر العالم بدقة تنظيمها. لا تخلو تلك الاحتفاليات من شعارات التقديس لسونغ وابنه يونغ والرئيس الحالي كيم يونغ أون. رسمت أجساد الطلاب صوراً للرئيس مبتسماً تارة وغاضباً تارة أخرى.

لا ينحصر استخدام لعبة الاستعراض البشري والطاقات البدنية بالدول الديكتاتورية، لكن ما يميز هذه الاحتفالات تحديداً هو المشاركة العسكرية المتخفيّة بالمشهد الطلابي، وتتمثل بنيابة المدربين العسكريين عن معلمي المدارس مثلاً أو المدربين الاستعراضيين المتخصصين. طوّعت تلك الدول أجساد الآلاف لإيصال رسائل سياسية، وإظهار قوة الدولة.

من ناحية أخرى، هناك "ألتراس" كرة القدم. "ألتراس" هم مجموعة بشرية تعمل بشكل عفوي مع أندية كرة القدم، وتطلق الهتافات الخاصة بها، وتشكل لوحات بشرية من إبداعها الذاتي. وتعكس "الألتراس" اليوم شكل الشارع ورأيه. هذا ما حدث في مصر.

بعد أن تورّط النظام العسكري المصري في مذبحة بورسعيد عام 2012، ظهر تأثير "الألتراس" في الأنظمة ومدى فعاليته. إذ شكل "ألتراس" ناديي الأهلي والزمالك القوة الفعلية لثورة 25 يناير.

كانوا منصة الهتافات والعمل الجماعي في صد هجّانة مبارك وعناصر الداخلية. ذكّرت صفوفهم المرصوصة وخطوطهم بالثورات العمالية التاريخية، وكانوا الفارق المشهدي للثورة. أجساد الشعب العارية المتكاتفة في وجه ترسانة أسلحة النظام. تُعدّ هتافات "الألتراس" التي أُطلقت حينها الأكثر تحدياً للنظام.

رغم العداوة الرياضية التاريخية بين جمهوري الزمالك والأهلي، أطلق الفريقان النشيدين الأكثر رواجاً ضد السلطة. تميز جمهور الأهلي بهتاف "يسقط يسقط حكم العسكر" الذي أُطلق قبل أسبوعين من المذبحة التي نُفذت بحقه.

لبنانياً، تسبب ألتراس نادي النجمة بانقلاب تاريخي في اللعبة. جمهور النجمة أقفل شوارع العاصمة بيروت عام 1999 احتجاجاً على تغريم ناديه وعلى الظلم الذي تعرض له الفريق خلال المسابقات المحلية. لم يحدث أن أغلق جمهور كرة قدم شوارع بيروت من قبل.

خرجت مظاهرات منددةً بالعقوبات، وعرف لبنان حينها ما يُعرف بإقفال مرحلة اتحاد كرة القدم والتي حصلت بعد الحرب. كسب الألتراس النبيذي المعركة بصدق الناس وحبهم له. لعلّ الصورة الأبرز حينها، والتي لا تُنسى في تاريخ الكرة، هي حين طلب النادي المساعدة من جمهوره عبر التبرّع لسد قيمة الغرامات التاريخية التي طالته.

شهدت منطقة المنارة حينها ما هو أبلغ من ذلك. كان بعضهم يرمي بمحفظته كاملة في صناديق النادي، بعض آخر يتبرع بخرفان! تلك ليست ظاهرة كرة فحسب، بل هذا الحب بعينه من دون مقابل. كانت ثورة كروية من الحب.

بعد ثلاث سنوات على تلك المظاهرات، وتحديداً عام 2002 تغير اتحاد اللعبة جراء الضغط الجماهيري. احتفظ النجمة باللقب الكروي بعد أن سجل حضور جمهوره رقماً قياسياً في لبنان، إذ احتل ملعب المدينة الرياضية. الملعب الذي يتسع إلى 50 ألف متفرّج كان مصبوغاً بالعلم صاحب النجمة البيضاء.

عالمياً، شكّل "ألتراس" نادي ليفربول أرقاً حقيقياً لأوروبا كلها. الجمهور الذي تسبب بمجزرة هيسل عام 1985 عوقب لسنوات بمنع فرق إنكلترا من اللعب أوروبيا. لم يمنع شغب الجمهور من أن تغزو هتافه واستعراضاته العالم. إذ أضحى نشيد ليفربول النشيد الأشهر على الإطلاق حول العالم.

قوة ألتراس ليفربول لا تضاهيها إلا ألتراس مانشستر. رغم سمعة الجمهورين، سهّل النظام البريطاني الحضور الأكبر في ألعاب كرة القدم الأوروبية عام 1996 لمواجهة ألمانيا في دور نصف النهائي.

تُعدّ استعراضات "التراس" بمدينة دورتموند الألمانية، من الأكثر تبدلاً وتنوعاً وصخباً خلال المباريات. ساعد شكل الملعب المائل خلف شباك حرّاس المرمى الجماهير على اختراع لوحات مبهرة. شكّلت جماهير دورتموند وألتراسه صرخة في وجه النادي الأغنى في ألمانيا، بايرن ميونخ. كانت لوحات جمهور دورتموند قوة ضغط على الاتحاد الألماني، لإعادة النظر في تعاقدات الأندية الألمانية مع اللاعبين وميزانيتها.

تعتمد محافظة كاتالونيا الإسبانية، والتي تنادي بالانفصال، على ألتراس برشلونة، النادي الأشهر عالمياً. فقد شكّل بألتراسه وجمهوره منبراً حقيقياً للانفصال. تشهد لوحات الجمهور وأناشيدها تعصّب الشارع الكاتالوني وشغفه وتحديه للسلطة الملكية الإسبانية.

يقف العالم بين نموذجين بشريين لا يقلّ أحدهما جماليّةً عن الآخر. الأول هو نموذج الاستعراضات المنظمة المبهرة التي تعكس نفوذ الدول وسياستها على ظهور آلاف الطلاب والجماهير. النموذج الثاني هو الألتراس التي تُشكل جماهيره لوحات بشرية مناقضة للأول، تشبه شوارع مدنها أكثر. يتأرجح العالم بين نقيضين تصنعهما أجساد البشر وحناجرهم.

أميل طبيعياً إلى الألتراس، هناك حيث الشغف مصنوع من قبضات وحناجر. أمّا اللوحات الرائعة التي تستعرضها الأنظمة في الملاعب، فهي أقرب للإلكترونية رغم جمالها، إذ لا تبعد عصا السلطة كثيراً عن الأجساد الملتوية لترسم صور الزعماء.
المساهمون