15 نوفمبر 2024
ثومة والعرب والإيديولوجيا
من ذكرياتي عن مرحلة المراهقة، وما بعدها بقليل، الانخراط في جو اليسار السوري في تلك الفترة، والذي كان سائدا ومنتشرا بين شباب الطبقة الوسطى وشاباتها بشكل كبير. كان للمناضل الشيوعي الأممي، أرنستو جيفارا، وللمنظّرة البولندية الأصل، الماركسية والأممية الانتماء، روزا لوكسمبورغ (على الرغم من الفارق الزمني بين الاثنين ) أثر كبير على جيلنا تلك الفترة. أذكر أننا كنا، شابات وشبابا، نحاول تقليدهما حتى باللباس، كان يحلو لشبابٍ كثيرين أن يلقب الواحد منهم "أبو جيفارا"، مع إطلاق لحاهم على طريقته، ومع ارتداء الجاكيت العسكري (الفيلد) الذي كانت الفتيات يرتدينه أيضا، ومع وضع الكاسكيت الشبيهة بالتي كان جيفارا يرتديها. في المقابل، كانت الشابات يقصصن شعرهن على طريقة روزا لوكسمبورغ، ويحاولن تقليد حياتها النضالية. وكانت مفردات مثل "البروليتارية" و"الرأسمالية" و"الانسلاخ الطبقي" على ألسنتنا دائما. وأكاد أجزم الآن أن كثيرين منا لم يكن يدرك أبعاد هذه المفردات، ولا نعرف من أين أتت، كنا نردّدها تأكيدا على الانتماء إلى الهوية اليسارية النضالية الأممية التي كانت تشبه الموضة.
هذا لا يعني طبعا أن الجميع كانوا هكذا، فثمة مناضلون حقيقيون في سورية في تلك الفترة، يساريون شيوعيون أمميون، دفعوا أثمانا باهظة لقاء قناعاتهم وانتماءاتهم الجذرية، دفعوها من أعمارهم وأرواحهم وغربتهم، ومن بقي منهم حيا ظل محافظا على انتمائه هذا من دون تغيير، بينما تحول كثيرون، ممن وجدوا أنفسهم يوما ما في قلب هذا الوسط اليساري، من دون وعي معرفي مسبق، ليصبحوا أبناء دياناتهم وطوائفهم وهوياتهم الصغيرة التي ظهرت بوضوح في السنوات الست الماضية في سورية.
وفي العودة إلى الذكريات عن تلك المرحلة، كانت جملة "منسلخ طبقيا" تشبه التهمة التي تلقى في وجه من يخالف الجماعة هي بشكلٍ ما شبيهة بتهمة "وهن نفسية الأمة" سابقا، أو "الإساءة للثورة" حاليا، غير أن الانسلاخ الطبقي لدى مجموعاتٍ من مؤيدي اليسار تلك الفترة، لم يكن يطلق عمن يرتد عن طبقته، أو عمّن يعلن تخليه عن اليسار التقدمي باتجاه اليمين الرجعي فقط، بل كانت تطلق على كل من يستمع إلى أم كلثوم! نعم، كان الاستماع إلى أغاني أم كلثوم، في تلك الفترة، بمثابة ارتداد فاجع عن اليسار الثوري. لسببٍ ما، كانت أم كلثوم تمثل، لدى جيلنا تلك الفترة، كل ما تعنيه "البرجوازية العفنة"، فهي كانت بالنسبة لنا مغنية الملوك والأمراء، ثم لاحقا مغنية أنظمة الاستبداد المتمثلة في نظام العسكر (جمال عبد الناصر). لم يشفع لها وقتها أن العمال والفلاحين كانوا من مستمعيها الدائمين، ولم يشفع لها أن المساحة الزمنية المخصصة لها في الإذاعات العربية كانت مساحة زمنية يومية لإلغاء "الصراع الطبقي" الذي كان يتحدث عنه مقلدو مثقفي اليسار، حيث كان الجميع، من مختلف الطبقات الاجتماعية، يجلسون الجلسة نفسها للاستماع إليها، ثم يدخلون في حالة الطرب العميق المصحوبة مع المزاج الخاص الذي تنشره مساحات صوتها الرائع. لم يكن أحد ممن يستمعون إليها يلقي بالا إلى موضوع الفارق الطبقي وصراعاته، ولم يكن أحد منهم يتذكر قصيدة أحمد فؤاد نجم "كلب الست"، ولا هجائيته الثانية "مرضعة قلاوون" التي غناها الشيخ إمام، والتي كانت الإشارة إلى موجة اليسار في كره أم كلثوم.
المفاجئ، والذي كنا نتبادله بالهمس، أن الغالبية العظمى منا كانت تستمع إلى أم كلثوم سرا، وكانت تحفظ أغنياتها عن ظهر قلب سرا. كانت علاقتنا معها تشبه علاقتنا مع الشيخ إمام، نستمع إلى الاثنين بالسر، هي سرا عن بعضنا بعضا، وهو سرا عن عناصر المخابرات التي كانت تنتشر خفية بين السوريين. لاحقا، بعد مرور هذه المرحلة، أصبح الاستماع إلى "الست" طقسا ثقافيا، تمارسه الطبقة المتوسطة، على وجه خاص، باعتزاز شديد، الطبقة نفسها التي كانت تسمعها ذات يوم في السر، لأسباب إيديولوجية تهدف إلى الحفاظ على التوازن الطبقي. اليوم أيضا، يستعيد شعب كامل حقه في الاستماع إليها علنا، وبصوت عال، وكأن صوت "ثومة" هو التيمة التي توضع، كي يعبر العرب فوق أوهام إيديولوجياتٍ، ليست لمن تفرض عليهم.
هذا لا يعني طبعا أن الجميع كانوا هكذا، فثمة مناضلون حقيقيون في سورية في تلك الفترة، يساريون شيوعيون أمميون، دفعوا أثمانا باهظة لقاء قناعاتهم وانتماءاتهم الجذرية، دفعوها من أعمارهم وأرواحهم وغربتهم، ومن بقي منهم حيا ظل محافظا على انتمائه هذا من دون تغيير، بينما تحول كثيرون، ممن وجدوا أنفسهم يوما ما في قلب هذا الوسط اليساري، من دون وعي معرفي مسبق، ليصبحوا أبناء دياناتهم وطوائفهم وهوياتهم الصغيرة التي ظهرت بوضوح في السنوات الست الماضية في سورية.
وفي العودة إلى الذكريات عن تلك المرحلة، كانت جملة "منسلخ طبقيا" تشبه التهمة التي تلقى في وجه من يخالف الجماعة هي بشكلٍ ما شبيهة بتهمة "وهن نفسية الأمة" سابقا، أو "الإساءة للثورة" حاليا، غير أن الانسلاخ الطبقي لدى مجموعاتٍ من مؤيدي اليسار تلك الفترة، لم يكن يطلق عمن يرتد عن طبقته، أو عمّن يعلن تخليه عن اليسار التقدمي باتجاه اليمين الرجعي فقط، بل كانت تطلق على كل من يستمع إلى أم كلثوم! نعم، كان الاستماع إلى أغاني أم كلثوم، في تلك الفترة، بمثابة ارتداد فاجع عن اليسار الثوري. لسببٍ ما، كانت أم كلثوم تمثل، لدى جيلنا تلك الفترة، كل ما تعنيه "البرجوازية العفنة"، فهي كانت بالنسبة لنا مغنية الملوك والأمراء، ثم لاحقا مغنية أنظمة الاستبداد المتمثلة في نظام العسكر (جمال عبد الناصر). لم يشفع لها وقتها أن العمال والفلاحين كانوا من مستمعيها الدائمين، ولم يشفع لها أن المساحة الزمنية المخصصة لها في الإذاعات العربية كانت مساحة زمنية يومية لإلغاء "الصراع الطبقي" الذي كان يتحدث عنه مقلدو مثقفي اليسار، حيث كان الجميع، من مختلف الطبقات الاجتماعية، يجلسون الجلسة نفسها للاستماع إليها، ثم يدخلون في حالة الطرب العميق المصحوبة مع المزاج الخاص الذي تنشره مساحات صوتها الرائع. لم يكن أحد ممن يستمعون إليها يلقي بالا إلى موضوع الفارق الطبقي وصراعاته، ولم يكن أحد منهم يتذكر قصيدة أحمد فؤاد نجم "كلب الست"، ولا هجائيته الثانية "مرضعة قلاوون" التي غناها الشيخ إمام، والتي كانت الإشارة إلى موجة اليسار في كره أم كلثوم.
المفاجئ، والذي كنا نتبادله بالهمس، أن الغالبية العظمى منا كانت تستمع إلى أم كلثوم سرا، وكانت تحفظ أغنياتها عن ظهر قلب سرا. كانت علاقتنا معها تشبه علاقتنا مع الشيخ إمام، نستمع إلى الاثنين بالسر، هي سرا عن بعضنا بعضا، وهو سرا عن عناصر المخابرات التي كانت تنتشر خفية بين السوريين. لاحقا، بعد مرور هذه المرحلة، أصبح الاستماع إلى "الست" طقسا ثقافيا، تمارسه الطبقة المتوسطة، على وجه خاص، باعتزاز شديد، الطبقة نفسها التي كانت تسمعها ذات يوم في السر، لأسباب إيديولوجية تهدف إلى الحفاظ على التوازن الطبقي. اليوم أيضا، يستعيد شعب كامل حقه في الاستماع إليها علنا، وبصوت عال، وكأن صوت "ثومة" هو التيمة التي توضع، كي يعبر العرب فوق أوهام إيديولوجياتٍ، ليست لمن تفرض عليهم.