ثورة الأدوية النفسية

13 يناير 2015

دواء ضد القلق قبل النوم (Getty)

+ الخط -
يستحق الزمن الذي نعيش فيه، بجدارة، لقب زمن ثورة الاتصالات، لكنه يستحق، وبجدارة أكبر، لقب زمن ثورة الأدوية النفسية، فمن متابعتي العلمية، كوني طبيبة عيون، وكذلك متابعتي الثقافية، لاحظت الانتشار الواسع لاستعمال الأدوية النفسية، أدوية رافعة للمزاج وأخرى مطمئنة وتخفف التوتر وأدوية مضادة للاكتئاب تتنوع بين معالجة الاكتئاب البسيط أو الاكتئاب المرضي. ولا يقتصر استعمال هذه الأدوية على شعب معين يعاني أوضاعاً صعبة وخطيرة، كالشعب السوري، فالإحصائيات في أميركا مُذهلة حقاً من حيث تناول أكثر من 60% من الأميركيين دواء نفسياً، هو صرعة الموسم الدوائي، اسمه (سام)، ويتناوله الأميركيون كأنه فيتامين، وهو يحسّن المزاج، ويخفف من التشاؤم والأفكار السوداوية.
حين كنت في أميركا سنة 2009 مدة ثلاثة أشهر، لحضور المؤتمر العالمي للكتابة، أمكنني، بواسطة طبيب لبناني، أن أقصد كل يوم مشفى متخصصاً بأمراض العين وجراحتها، وذهلت من أن معظم الأطباء، من جراحين ومُخدرين، يتناولون أدوية نفسية من نوع مضادات القلق (كاليكزوميل) والدواء الصرعة حالياً في أميركا، وحين سألتهم: لماذا تتناولون أدوية نفسية، وأنتم أطباء، وتعرفون أن أقل أضرارها الإدمان، وتأثيرها على الذاكرة والتركيز. كان جوابهم واحداً: لكي نتمكن من تحمل ضغط العمل، كان طبيب العيون الذي أحضر معه عمليات الساد (الماء الزرقاء) يجري أربع عشرة عملية في اليوم، كان كالآلة، يعمل ويعمل، ولم يكن يحفظ اسم المريض الذي يجري له العملية، بل يُحوله إلى رقم. كان يقول: الآن دور رقم 6، والآن دور رقم 10، وحين سألته: لماذا تعمل بهذه الكثافة، أجاب إن الحياة هكذا في أميركا، العمل من أجل الربح، ولأنه إن خفف عمله فثمة منافسة شديدة قد تقضي عليه. لم أستطع أن ألمح أي تعبير سعادة وطمأنينة عليه، بل كانت ملامحه تعكس مللاً قاتلاً، حولته الرأسمالية الأميركية إلى حصان سباق، عليه أن يركض باستمرار، وإن أحس بتعب، أو أراد التقاط أنفاسه يُلفظ خارجاً، وتقضي عليه المنافسة.
ليس وضع الأطباء وحدهم ضحايا توتر العمل وساعاته الطويلة، بل كل الأميركيين والأوروبيين أيضاً، حتى إن شركة هندسية تضع شعاراً لها: اركض على مدار الساعة. وطبعاً المقصود بالركض العمل، أية إهانة لإنسانية الإنسان ألا يتمكن من العيش إلا بمعونة دواءٍ، يساعده على تحمل ضغوط عمل لاإنساني وإلا ينهار، والكل يشعر برُهاب فقدان العمل، ممنوع التعب وممنوع التوقف عن الإنتاج. الربح غاية الحياة، وما التفنن في طرح السلع الاستهلاكية سوى طرق عديدة لاصطياد الناس ودفعها للشراء. ومن لا يعش بتلك الطريقة يشعر أنه منبوذ. وكم صُدمت، حين عرفت أن أطفالاً كثيرين في المجتمعات الغربية يتناولون أدوية نفسانية أيضاً، وأن اختصاص الطب النفسي عند الأطفال انتعش كثيراً في السنوات الأخيرة، لأن هؤلاء الأطفال ضحايا ظروف أهلهم، فلا يلتقون بهم إلا مساء، والكل مهدود من التعب، ولا أحد من الأبوين لديه الطاقة، ليعطي أولاده الاهتمام والمحبة، حتى إن تعامل الوالدين مع أطفالهم أصبح مثل تعامل الشرطي مع المواطن.
وقد تحدثت طبيبة نفسانية أميركية، اسمها إيدا لوشان، في كتابها (عقل غير هادئ)، عن إصابتها هي نفسها بمرض الاكتئاب الثنائي القطب (بي بولار). وكيف أن هذا المرض منتشر بكثرة في أميركا، وامتلكت شجاعة البوح بمعاناتها في تناول الدواء، وفي الأعراض الشديدة الألم النفسي في هذا المرض. وأكثر ما أحببت في الكتاب أن كاتبته تقنع المريض النفسي بألا يخجل من مرضه، وألا يشعر بالعار أو الدونية، كما ننظر للأمراض النفسية في عالمنا العربي، إذ لا تزال النظرة الاجتماعية لمن يقصد طبيباً نفسانياً متخلفة، كما لو أن المريض النفسي مجنون، فيضطر كثيرون لإخفاء حقيقة مرضهم النفسي، ويخفون أنهم يتلقون العلاج عند طبيب نفسي.
وإذا كان الناس في المجتمعات الغربية وأميركا يتناولون الأدوية النفسية، من أجل تحمل ضغوط العمل، بما ينتج منها من إحساس بالقلق والإحباط والوحدة، فإن أسباب تناول تلك الأدوية في عالمنا العربي تختلف كلياً عن الأسباب في الغرب. ولأن هاجسي سورية، أؤكد أن أكثر من 90% من السوريين يتناولون أدوية نفسانية، مضادات القلق ومضادات الاكتئاب والأدوية الرافعة للمزاج والأدوية المُنومة، حتى إن أحد أصدقائي السوريين كتب على صفحته على "فيسبوك" أن من واجب الدولة أن توزع للمواطنين الأدوية النفسانية، كالإعاشة (أي كما توزع السكر والخبز بأسعار قليلة). كيف يمكن للسوري أن يعيش بدون عكازة، تعينه على المشي والوقوف وأداء الحد الأدنى من واجبه تجاه أسرته وفي عمله؟ كيف سينام أهل حلب وسط دوي الصواريخ والبراميل المتفجرة وانقطاع الكهرباء أياماً وشح المياه؟ كيف سيتحمل السوري، حتى الذي يعيش في مناطق آمنة نسبياً أن يسير في الشارع المزينة جدرانه بحشد من صور الشهداء والشبان الذين قتلوا واختفوا في المُعتقلات؟ أية متانة نفسية أسطورية على
 السوري أن يتمتع بها، حتى يشهد على الفضائيات أجساد إخوته السوريين ممزقة بالرصاص، ومكومة في مقابر جماعية، وأن يشهد كل فترة مجزرة لم ينج منها حتى الأطفال (مجزرة الحولة).
صارت الأدوية النفسانية والمهدئة والمضادة للقلق أهم من الخبز بالنسبة للسوري، لأن هول المعاناة التي يعيشها تجعله، مهما كان جباراً، يركع ويزحف من الألم. ولا تخفى على أحد ظاهرة إدمان كثيرين من شباب سورية على المخدرات، وظاهرة انتحار الشباب العربي، وأظن أن معظم شباب عالمنا العربي يعانون كمعاناة الشعب السوري، لكن حدة الأزمة في سورية أكبر بكثير. وفي السنوات الأربع من الجحيم السوري، أمكنني أن أتابع مئات الحالات لأطفال سوريين دُمرت أعصابهم وانهاروا، من دون أن يدركوا حقيقة مصابهم، إذ كان انهيارهم العصبي يتخذ مظاهر عديدة، مثل آلام بطن شديدة بدون سبب عضوي، وبعض هؤلاء الأطفال كان ينام طوال الوقت، كأحد وسائل حماية نفسه من وجع الصحو، لأن جهازه العصبي الطفولي مُروع مما شاهده وعاشه. وكان أطفال يُصابون بحالات شديدة من ضيق النفس والتشنج، إلى درجة الاختناق، حين يشتد القصف وتتزلزل أركان بيتهم، وقد يُدمر جزئياً أو كلياً. وكان بعضهم ضحايا على طريقة المُضحك المُبكي، إذ تحول لعبهم إلى فريقين، أحدهما من الجيش السوري يقاتل فريقاً من الجيش الحر، وكل طفل يحمل بندقية من البلاستيك تكاد تطابق، بشكلها وحجمها، بنادق الجنود. وكان خيالي يمعن في تعذيبي، حين يصفعني بصورة أن هؤلاء الأطفال سوف يستبدلون بنادق البلاستيك ببنادق حقيقية، بعد سنوات.
وكم خيبت أمل كثيرين من أصدقائي السوريين، حين كنت أرفض أن أكتب لهم وصفات أدوية نفسانية، متعللة بأنني طبيبة عيون، ثم انقطعت تلك الأدوية واختفت من معظم الصيدليات، وأصدرت وزارة الصحة قراراً بمنع بيعها، من دون وصفة طبية. ولست بصدد التحدث عن الآثار الجانبية لهذه الأدوية التي يسبب كثير منها الإدمان، ويولد بعضها ميولاً انتحارية لدى مُستخدميها. وقد يكشف العلم في المستقبل أن لها آثاراً خطيرة جداً على الدماغ والذاكرة والسلوك. ولا أنسى حالة أم ثكلى توفي زوجها في الحرب السورية تاركاً لها أربعة أطفال، أكبرهم في العاشرة من عمره، لم تكن جبارة كفاية لاستيعاب الصدمة، خصوصاً أن بيتها أيضاً تدمر، اعترفت لي أنها تعطي أولادها من الخامسة عصراً منوماً، ليناموا حتى صباح اليوم التالي، لأنها عاجزة عن العناية بهم أكثر من ساعات محدودة؟
هل هذا عصر الحضارة الإنسانية؟ هل نتباهى بثورة الاتصالات، والأشكال المُغرية والجذابة من الأجهزة الإلكترونية التي تُطرح بكثافة في السوق، والناس تلهث للحصول على أحدث موديل، وننسى أن معظم سكان تلك الكرة الأرضية المُلتهبة بالحروب والعنف والمآسي مكتئبون، ويشعرون بالعجز والإحباط، ولا يستطيعون أن يعيشوا يومهم وأعصابهم على شفير الانهيار، لا يستطيعون أن يعيشوا الحياة إلا بالأدوية النفسانية.
أتمنى أن يقرأ الجميع كتاب الطبيبة النفسانية إيدا لوشان (عقل غير هادئ)، أصدرته الدار العربية للعلوم، وكتاب "ثقوب في الضمير" للطبيب النفساني المصري، أحمد عكاشة، لندرك خطورة هذا الزمن ومأسويته، والذي نعيشه، حيث مُسخت إنسانية الإنسان كُلياً. وأصبح ضحية الأنظمة الرأسمالية أو ضحية الحروب. وكلاهما وجهان لعملة واحدة، هي اللاإنسانية. وانعدام الضمير العالمي.


831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية