الوحدة العربية مطلب الشعوب العربية(محمود حويس/فرنس برس/getty)
كان مصطلح "الوحدة العربية" يتردد كثيراً. في عز الأزمات التي تنشأ بين دول الضاد يخرج من يتحدث عن لم شمل العرب. في كل عدوان ينتهك فلسطين تعود هذه العبارة إلى الواجهة. إلا أن الحديث عن "الوحدة العربية" لا يرسم في العقل صورة الناس العاديين. عندما تقال هذه العبارة، غالباً ما يتخيل المرء قادة الدول، يتحدثون بأناقة، وشعر مصفف ومصبوغ، إن وجد. يجلسون حول طاولة مستطيلة وطويلة جداً، في وسطها الكثير من باقات الورد، والكثير من عبوات المياه، والكثير من شارات النصر، والبطون والحواجب المعقودة...
تهميش وأكثر
قليلون جداً من تعني لهم "الوحدة العربية"، وحدة الشعوب. قليلون جداً.
ليست هذه الصورة المحفورة في أذهاننا، من نسج الخيال وحده. فقد عانت الشعوب العربية لسنوات طويلة جداً من تهميشها، بحيث يكون رئيس البلاد هو ممثل البلاد. وهو الناطق باسم الشعب وهو الحاكم باسم الشعب وهو من يختصر كل الشعب.
منذ انطلقت الثورات العربية، تهشمت مخيلتنا. نتابع من لبنان ما يحدث في تونس، وكأن الأحداث تدور تحت منزلنا. يتضامن المصري مع السوري، والسوداني مع اليمني، والأردني مع الليبي... صورة أخرى أصبحت هي الحاضرة. صورة ناس، الكثير من الناس، يتوحدون حول شعارات لها طعم محسوس، طعم التوق إلى التحرر، وطعم تَنبّه الناس تحت أنهم بشر لهم حقوق، وأن الأنظمة فوق تسلبهم حقوقهم.
إلا أن الأنظمة العربية التي استحكمت بشعوبها طوال سنوات مضت، تعرف تماماً نقاط ضعف الناس، وتعرف كيف تفاوض مع أنظمة أكبر منها، وكيف تبتلع من هو أصغر منها. وكأن الصراع أصبح صراع أجيال، جيل يتبختر ويختال بخبرة في القمع، وجيل يختل بأزمة خبرته الضئيلة في التعامل مع أي جديد، ولم يعتد الاقتناع بأنه "قادر" على تغيير واقعه. وكأنه صراع بين فئة تعرف كيف يؤكل الكتف والرأس، وجيل تشرّب ممن سبقه أفكاره السوداء، يريد التحرر منها، ولكن بأدوات سلفه، التي فعلياً، لا يعرف غيرها.
نحن في أزمة، وحدتنا العربية في أزمة. بين فقر وبطالة وتهميش اجتماعي واقتصادي، وعدم وجود ولو نيّة لاستنباط فكرة جديدة تستطيع تحدي السياسات القائمة بأخرى تفتح على احتمالات غير متداولة.
يرفع الاشتراكيون خيباتهم التاريخية، ويحاولون إخفاء ثغرات فكرهم بجهل أو بقصد، ويستمرون في تحقيق الهزائم، ليس في الانتخابات فقط، وإنما في فهم مجتمعاتهم وتركيبتها وآلية تفكيك الأزمات فيها. كيف يمكن أن تتحقق "اشتراكية" على يد من لا يعرف أن في بلده سلسلة من المصالح المترابطة من المنهاج الذي يتم تدريسه في الصف الأول في المدرسة وصولاً الى سياسة الأجور التي يفرضها رأس الدولة؟ كيف يمكن قطع الصلة بين فقير وزعيم يؤمن للأخير وظيفة صغيرة في مؤسسة عامة، يمولها الفقير نفسه من ضريبة الدخل الضئيل الذي يتقاضاه؟ لا يوجد أجوبة، فقط شعارات ومصطلحات وكلام فوق كلام.
وفي المقابل، لا يجترح الليبراليون أي فكرة تؤنسن توجههم الاقتصادي والاجتماعي. لا يفقهون في الليبرالية سوى عبارة "دعه يعمل دعه يمر"، يصفقون حين يسمعونها، ينتشون حين تفرض دولة رفع الدعم عن السلع. وكأنهم يعيشون في جزيرة بعيدة عن مجتمعهم، ينتجون أو بالأحرى يستوردون السلع لأبناء الجزيرة، فيما في مجتمعهم من لا يستطيع شراء رغيف.
نحن في أزمة، وحدتنا العربية في أزمة. أصبحنا نعرف أنه توجد علّة، ولكننا لا نمتلك أي دواء يعالجها. صحيح، نشأنا في دول تقمع التفكير بأي تغيير وبأي مفهوم خارج الطبق. فقد ذلّتنا أنظمتنا بالجهل الذي يمنعنا من معرفة واقعنا. عملية التجهيل وصلت إلى حد إخفاء أرقام الفقر، لا وبل إخفاء التعداد السكاني الفعلي. إلا أن الجهل يكاد ينتقل بالوراثة، نكتشفه بين معشر "المثقفين" خصوصاً، الذين يحرصون على تغليف جهلهم وتعميمه باستخدام عبارات صعبة في نص يحلل واقع بلد، نص من المفترض أن يكون للعموم لا لفئة فقهاء المصطلحات المعقّدة.
نحن حاولنا. هي الخطوة الأولى. بعدها لا بد أن نثور على جهلنا، للانتهاء ولو بعد أعوام بتحليل تركيبة مجتمعاتنا، علّ الأجيال المقبلة تحقق ما رفعناه من شعارات لن نتنعم بآثارها: حرية، كرامة وعدالة اجتماعية.