ثم سقطت دولة المليون مخبر فوق رؤوس الجميع(2)

16 ديسمبر 2015

هل كان صدام يحمي العراق؟ (12إبريل/2003/Getty)

+ الخط -

ليس بالقمع وحده تستمر الأنظمة في الحكم، ولذلك يحتاج أي نظام استبدادي إلى أن تكون لديه دوائر شعبية، توافق على ممارساته وتدعمها، سواء بشراء الولاءات والذمم، وربط مصالح تلك الدوائر الشعبية بمصالح النظام وتوظيف التضليل الإعلامي الذي يضخم الإنجازات ويتاجر في الخوف، بعد إيجاد جبهات صراع خارجية، تستثير النعرة الوطنية، وتظهر النظام في دور الحامي الوحيد لمنع الدولة من الانهيار. وقد فعل صدام حسين ذلك كله وأكثر، في سنوات حكمه، فنجح في اجتذاب أعداد كبيرة من المؤيدين، أصبحوا جزءاً من النظام، وصار بقاؤه مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم، وهو ما جعل جوزيف ساسون في دراسته المهمة عن (بعث صدام) يؤكد أن وشاة النظام ومخبريه لم يكونوا دائماً مأجورين، أو يعملون تحت التهديد والإكراه، لأن النظام نجح في جعل مواطنين كثيرين، من مختلف الطبقات، يقتنعون أن حزب البعث ورئيسه صدام يملكون حلا لكل مشكلات المجتمع العراقي، فيتحول كل منهم في موقعه إلى مخبر وجلاد يفتك بكل من يعارض النظام.

وربما أمكن، في إطار هذا، أن نفهم سعي نظام عبد الفتاح السيسي المحموم، هذه الأيام، إلى تنظيم جهود مؤيديه داخل البرلمان المصنوع على عينه، وتوحيدهم في كيان رسمي، يدعم دولته، على أن يتم التحرك، لاحقاً وقريباً لبناء تنظيم شعبي وآخر شبابي، على غرار منظمة الشباب والاتحاد الاشتراكي، لتعمل تلك الكيانات على الطريقة البعثية، بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية، من أجل إحكام السيطرة على البلاد والعباد، وهي محاولاتٌ لا أظنها تحقق نجاح حزب البعث العراقي أو السوري في البقاء طويلا في الحكم، لأن من يقودونها في الواقع يفتقرون إلى أي حنكة سياسية، ولا يمتلكون حتى غطاءً أيديولوجياً، يجعل تلك التنظيمات المصنوعة تتماسك، وكل ما يملكونه، وكل ما يشغلهم هو مكاسب مالية ومصالح اقتصادية. ولذلك، هم يتخيلون، بذكائهم المحدود، أن المناصب البرلمانية والسياسية يمكن أن تؤدي إلى مضاعفة تلك المكاسب في أسرع وقت ممكن، وهو ما سينتج عنه حتماً أداء سياسي واقتصادي منحط، سيقلل بشكل مضطرد من دوائر المنتفعين بالنظام على المستوى الشعبي، والتي ظلت تؤجل إعلان سخطها حتى الآن، طمعاً في المستقبل، لكنها حين تدرك إفلاس النظام في حل أزماتها، أو تأمين مكاسبها، لن يكون أمامها إلا السخط المعلن أو الصامت، وهو ما سيجعل النظام في وقت قصير فاشلاً في تأمين دائرة شعبية صلبة، تؤخر سقوطه فترة طويلة، كما حدث، مثلاً، في حالة صدام حسين.     

الكل تحت الرقابة

في رحلته من أجل تأمين بقاء طويل على كرسي الحكم، كان صدام يدرك أهمية المعلومات التي تقدمها له أجهزة الأمن، في الحفاظ على نظامه ضد أي أخطار تهدده. لذلك، كان يكرّر أوامره في اجتماعات مجلس الوزراء، بالتعاون مع الإدارات الاستخباراتية، ومدها بكل ما هو ضروري، لتحقيق مهمتها، وتكشف الوثائق التي درسها جوزيف ساسون أن أي مسؤول حكومي يُضبط متلبساً بالتقاعس عن التعاون مع المؤسسات الأمنية، كان يُعامل معاملة سيئة ويوبخ رسمياً، ليصبح في ملفه وصمة تهدد مستقبله الوظيفي، وهو ما دفع مسؤولين لأن يكتبوا تقارير عن أنفسهم إثباتاً لحسن النيات، وقطعا للطريق على الوشاة، مثلما فعل طه ياسين رمضان، نائب رئيس الدولة، الذي لم يحمِه منصبه من أن يكون لديه ملف ضخم يحتوي على ما يزيد عن 300 صفحة. طارق عزيز أيضا كان وزير الخارجية وموضع ثقة صدام، إلا أن ذلك لم يمنع زملاءه في مجلس قيادة الثورة من أن يكتبوا فيه تقريراً أن ابنه يستغل منصب أبيه، ويتفاوض مع شركات أجنبية في معاملاتٍ تجارية، ليكتب صدام على هامش التقرير: "علم، لا يجري استجواب للابن، ولكن تُجمع عنه مزيد من المعلومات"، فقد كان صدام، كما يقول جوزيف ساسون "يدرك أن تلك المعلومات يمكن أن تستخدم ضد طارق عزيز ذات يوم إن حاد عن ولائه المطلق للرئيس".

كانت الأجهزة الأمنية حريصًة على أن تشعر كل مسؤولي الدولة، كباراً أو صغاراً، بأنهم تحت

رقابة لصيقة، فتضبط، أحياناً، تجاوزاتٍ يقومون بها وتجري محاسبتهم عليها، حيث تم، مثلاً، تشكيل لجان للتحقيق في شكاوى ترد عن تلقي بعض الضباط رشاوى، أو اقتحامهم ملاهٍ ليلية بأسلحتهم، أو تعطيل أبنائهم مصاعد العمارة التي يسكنون فيها، أو دخول بعضهم في علاقات حميمة، خصوصاً حين تتسبب تلك العلاقات في مشكلات إدارية، مثل واقعةٍ كانت بطلتها موظفة في فرع الاتصالات، دخلت في علاقات جنسية مع ضباط في الجهاز، وحاولت ابتزازهم بعد ذلك، لتنتهي المشكلة باعتقالها عاريةً، بصحبة ضابط في الجهاز، لكن ذكريات المسؤولين الطيبة معها جلبت لها عقوبة مخففة، حيث تم الاكتفاء بتخفيض رتبتها، ونقلها إلى وزارة الصحة، كما نُقل ابنها الذي كان يعمل، أيضاً، في جهاز الأمن الخاص إلى مؤسسة صناعات عسكرية.

"اقفل علينا يا ريس"

تكشف الوثائق التي درسها جوزيف ساسون أن الأجانب كانوا يشكلون هاجساً مخيفاً في فكر الأجهزة الأمنية، طوال الخمسة وثلاثين عاماً التي قضاها حزب البعث في الحكم، حيث ساد الانكفاء على الذات، والخوف من كل ما هو أجنبي، أو حتى متأثر بالأجانب، كان صدام حسين يَصِم دائماً أي معارضة سياسية بأنها أجنبية وعميلة للخارج، "وكان هناك دائماً حالة تعبئة للجماهير بمشاعر الخوف من الجواسيس، ودعوة مستمرة لها لأن تكون يقظة وحذرة، وأن تبلغ عن أي فرد تشك في أنه يتجسس على العراق، كانت تكتشف مؤامراتٍ على الدوام، وتذاع من خلال الإذاعة والتلفزة، وكانت الجماهير تؤمر بالحذر والحيطة من الطابور الخامس الموجود داخل البلاد، وقال صدام حسين لمجموعة من أعضاء أحزاب البعث في أقطار عربية أخرى، أنهم اكتشفوا أن عدد العملاء الإيرانيين الموجودين بين جماهيرنا، وداخل جيشنا، لا يمكن الاستهانة به"، وكان ما قاله صدام يشكل دعوة صريحة لأعضاء حزب البعث في الدول العربية، لكي يساعدوه على جمع المعلومات عن العراقيين الموجودين في الخارج، وعلى تجنيد الطلاب لعضوية حزب البعث، والتعاون مع الجهات الأمنية.

ذهبت أجهزة صدام إلى أبعد مدى في الخوف من الأجانب، إلى درجة أنها فرضت حظراً شبه رسمي على الزواج من أجانب، وألزمت به كل كبار رجال الدولة، وكل العاملين في أجهزتها، حتى أن مهندساً اختصاصياً في طيران الفضاء، يعمل في معهد الطيران المدني، فُصل من عمله لزواجه من امرأة أجنبية، على الرغم من أنه كان عضواً نشطاً في حزب البعث، منذ بدأ دراسته في الخارج. وفي حين كان على كل عراقي أن يحصل على موافقة المؤسسات الأمنية، قبل السفر إلى الخارج، كانت تمنع أي امرأة عراقية متزوجة من أجنبي من الانضمام إلى أي بعثة رسمية، كما كان يُمنع أي عضو تم فصله من حزب البعث من تمثيل العراق على أي مستوى، كما كان يُمنع أي فرد "لديه مشاعر عدوانية تجاه الحزب والثورة" من السفر ضمن أي وفد رسمي يمثل الدولة، كما كان يمنع أي مسؤول يشغل منصباً حساساً من السفر، قبل مرور ثلاثة أعوام على تقاعده، خوفاً من عدم عودته إلى البلاد، "بل حتى العمال اليدويون الذين يعملون في القصور الرئاسية والذين تركوا العمل فيها كان عليهم الانتظار عاماً على الأقل، قبل أن يسمح لهم بمغادرة البلاد. هذا إذا كانت ملفاتهم لدى الأمن نظيفة"، كان أيضاً ممنوعاً على العراقيين أن يدخلوا في تعاملات تجارية أو مالية مع عراقيين يعيشون في الخارج "لو كانت لدى أولئك المقيمين في الخارج أية مشاعر عدائية تجاه العراق"، ولا أظنك بحاجة إلى شرح العبارة التي وردت في أحد التقارير الأمنية، فأنت تسمع، الآن، مثيلاتها في وسائل الإعلام المصرية، وتعرف أن مفهوم "العداء لمصر" لدى الأذرع الإعلامية لا يعني إلا معارضة نظام السيسي، والتنديد بجرائمه التي ترتكب كل يوم في السجون وأقسام الشرطة والشوارع والميادين وشاشات التلفزيون.

المخبر العضوي

لم يجد جوزيف ساسون في الوثائق التي درسها أرقاما لعدد المبلغين والمخبرين والمتعاونين مع نظام صدام، سواء من كانوا يحصلون على مبالغ مالية نظير تقاريرهم، أو من كانوا يتعاونون مع النظام متطوعين، لكنه يلاحظ بعد الاطلاع على عشرات الملفات الخاصة بالمبلغين والمخبرين، "أنهم لم يكونوا جميعاً من تعيسي الحظ، ولا الفاشلين، ولا جميعهم من الأميين، ولا من المكرهين على تقديم المعلومات، وينتمون إلى طيف واسع المدى من الطبقات الاجتماعية والخلفيات التعليمية".

كان هناك من بين هؤلاء من وافق على أن يصبح مخبراً، مقابل موافقة حكومية يحتاجها، ففي واحدة من الحالات، وافق مدرس على أن يكون مخبراً، في مقابل استلام ترخيص فتح مكتبة، بينما وافق خريج مدرسة تقنية على العمل مخبراً، للحصول على موافقة لشراء آلة نسخ

مستندات، لكن هناك، في الوقت نفسه، ربة منزل حاصلة على الشهادة الابتدائية لم تكتف فقط بالعمل مخبرة، بل وتبرّعت بحليها الذهبية للمجهود الحربي في أثناء الحرب ضد إيران، وكان هناك مخبرون كثيرون على شاكلة هذه السيدة، ممن يقتنعون بصحة سياسات النظام ووجوب دعمها، وهو نموذج سبق أن أطلق عليه الدكتور عمرو إسماعيل عادلي تعبير "المخبر العضوي"، حيث يؤدي المواطن الصالح أو الشريف كل وظائف المخبر، من دون أن يتقاضى أجراً، أو يعمل بشكل رسمي مخبراً كلاسيكياً. وفي حين كان هناك مخبرون يتطوعون للإدلاء بمعلومات، نوعاً من الضغينة والانتقام ضد أصدقاء أو جيران، كان هناك آخرون عملوا مخبرين بعد أن يتعرضوا للتهديد، منهم أب انهار في أثناء الاستجواب، وقدم معلومات عن ولديه اللذين تهربا من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية، وعن أربعة من أقاربه الأعضاء في الحزب الديمقراطي الكردستاني. في حالات أخرى، كانت الضغوط تمارس على بعض العائلات، ليجبروا أقارب لهم على العودة إلى العراق، ويسلموا أنفسهم إلى السلطات، كما حدث لأب كردي من السليمانية، تم إجباره على الاتصال بابنه في هولندا، ليطلب منه العودة إلى العراق.

كان حزب البعث يدرك أهمية دور المخبرين بالنسبة له. لذلك، أصدر قانونا في يوليو/تموز 1979 لحماية المخبرين والوشاة، سماه (قانون حماية المؤتمنين في الدفاع عن الثورة)، ليقوم بتعريف "المؤتمن"، وهو اسم الدلع الذي أطلقه على البصّاص أو المخبر، بأنه "مواطن يعمل بأجر، أو بدون أجر، لأي من الوكالات الأمنية، طبقا لتوجهات تلك الوكالات"، محدداً المزايا المادية التي يستفيد بها المخبر، من مكافآت وحقوق تقاعد مالية وتعويضات. وكما يكشف ساسون، لم تحتو وثائق الأجهزة الأمنية فقط على الملفات المتعلقة بمدفوعات المخبرين وإقراراتهم باستلام الدفعات الشهرية، لكنها كانت تحتوي، أيضاً، على ما يفيد تسليم ضباط الأمن المسؤولين الأموال للمخبرين، بتوزيع رواتب المخاتير، أو العُمد، في المناطق التي يعمل فيها المخبرون، ليصور ذلك بوضوح المدى الذي تخللت فيه قوى الأمن والاستخبارات جميع مناحي الحياة في العراق.

كان آلاف المخبرين العضويين هؤلاء يكتبون تقارير منتظمة، ضد كل من يرتبط أو يُشك أنه يرتبط بصلة مع أعداء الدولة الرئيسيين داخل البلاد، والذين حدّدهم تقرير رسمي بأنهم: "الحركة الكردية بحزبيها الرئيسيين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الشيوعي، وحزب الدعوة، وجماعة الإخوان، وأي حركة ذات غطاء ديني، والجماعات والأفراد المنفصلين عن حزب البعث، وأي حركة تتظاهر بأنها حركة وطنية". والفئة الأخيرة تمت صياغتها بشكل فضفاض، ليدخل في إطارها كل من ترغب السلطة في التنكيل به. كان المخبرون يكتبون تقارير أيضاً عمّن يرتادون الجوامع بانتظام، ويوزعون كتباً أو منشورات دينية، ويبلغون عن أماكن المتهربين من الخدمة العسكرية، وعمن يسبون الرئيس أو أسرته، فضلا عن تقديم تقارير أمنية لها علاقة بشؤون الاقتصاد، بدءاً من تجارة السوق السوداء وحتى التلاعب بالأسعار.

كان صدام يؤمن بفكرة وجود المخبرين في كل مكان، للسيطرة على الاقتصاد والأمن

والأسعار، فحين كتب مواطن إلى صحيفة يشكو من ازدياد حالات سرقة السيارات، انزعج صدام بسبب عدم وجود أعداد كافية من المخبرين بين بائعي السيارات، ليبلغوا عن السيارات المسروقة التي تعرض عليهم، بدلاً من أن يطالب بالتحقيق في التقصير الأمني الذي أدى إلى ذلك. كان مخبرو النظام، أيضاً، مكلفين بالإبلاغ عن الشائعات، وكان على كل مخبر أن يملأ استمارة خاصة، يحدد فيها تفاصيل الشائعة، ومكان انتشارها ومداه، والتاريخ الذي بدأت به بالانتشار، ليقوم الضابط المسئول عنه بتحليلها، ويسجل توصياته، بكيفية التعامل معها.

مخبر لكل مواطن وكل مواطن مخبر

ينبهنا جوزيف ساسون إلى أن نظام الوشاية لم يكن مرتبطاً فقط بتلك الشبكة العملاقة من المخبرين، فقد جعلت الدولة البوليسية كل مواطن مجبراً على أن يكون مخبراً ومبلغاً عن غيره بشكل أو بآخر، لأن عدم الإبلاغ عن أي فعل مشبوه يقوم به فرد، حتى لو كان من عائلة المواطن، يجعله مشاركاً له في الجريمة، وبفعل الإعلام الموجه والمستوعب "أصبح المجتمع مغسول العقل في تصديق أن مراقبة المواطنين بعضهم، هو الذي يحمي النظام من مؤامرات أولئك الذين يسعون إلى تدمير المجتمع وإنجازاته تحت قيادة حزب البعث". يروي ساسون، في هذا الصدد، قصة من واقع الملفات، عن عامل مخلص في جهاز الأمن الخاص، أبلغ، في 22 يناير/كانون ثاني 1990، عن أخيه الذي كان قد أرسل إلى إنجلترا في بعثة لدراسة هندسة الطيران، ولم يعد إلى العراق، على الرغم من إنهائه الدراسة، كاشفاً أن أخاه تزوج من سيدة إنجليزية، وأنجب منها طفلين، ليتم وضع أخيه تحت المراقبة الأمنية، ويرفع تقريره إلى صدام حسين الذي قرّر أنه على ضوء حقيقة أن المواطن المخبر "له قريب من الدرجة الأولى يعيش في الخارج، وعلى الرغم من ولائه التام وسجله الناصع في خدمة الحزب وجهاز الأمن الخاص، إلا أنه يجب أن يُنقل إلى عمل آخر خارج جهاز الأمن الخاص، كما يجب أن يبقى تحت المراقبة من قوى الأمن"، ولم يكتف جهاز الأمن بذلك، بل ضغط على الأخ المخبر، لكي يحث أخاه المغترب على العودة إلى العراق، ليخدم بلاده، لكن أخاه رفض العودة. ويقول ساسون إن واقعةً كهذه تحيل إلى عدد كبير من أفراد العائلات، أجبروا على الإبلاغ عن بعضهم أو التبرؤ من بعضهم بعضاً لإنقاذ أنفسهم، وكذلك تكشف لنا عن مستوى الوسواس القهري الذي وصل إليه النظام من كل ما هو أجنبي، ويحتمل أن "يفسد" حتى ضابطا مخلصا للنظام، إلى حد الإبلاغ عن أقرب الناس إليه.

ويبقى، بعد هذا كله، أن نسأل: ما الذي كسبه العراق حقاً من آلاف الضباط والمخبرين، وملايين التقارير والوشايات، وهل كان بقاء صدام حسين ونظامه على رأس السلطة، طوال تلك السنين، إنجازاً وطنياً أم تمهيداً لخراب مؤجل، وهل أدت كل تلك الإجراءات الأمنية الشرسة إلى جعل الدولة العراقية متماسكة وقوية، أم جعلت السوس ينخر ببطء في بنيان الدولة الضخم، لتنهار بذلك الشكل المخزي أمام جيوش المحتل التي عاثت بدورها فيها فساداً، ثم تركتها لحلفاء عديمي الضمير والكفاءة، يواصلون الآن نهبها وتخريبها وتجريف مواردها البشرية والمادية.

هل كان صدام حقا يحمي العراق، حين ظل يخنق فيها كل صوت حر، وكل رأي معارض أو مستقل، ويحوّلها إلى عزبة لضباط الجيش والأجهزة الأمنية ومن عاونهم، أم أنه كان يعدها، طوال سنين حكمه، لسقوط مروع فادح الأثمان، لا يعلم نهايته إلا الله. وهل يمكن أن يتعظ من التجربة العراقية المريرة، كل من يبرّرون، الآن، في مصر القمع والتنكيل والقتل، ويصفونه بأنه "حفاظ على الدولة الوطنية"، وهو المبرّر نفسه الذي ظل صدام حسين يعيث به في العراق ظلماً، حتى انهارت "دولته الوطنية" المزعومة على رؤوس الجميع، جلادين وضحايا ومخبرين ومبررين وصامتين ورافضين، وبدلاً من أن تصير مثلاً صادقاً يتعظ به الجميع، صارت، ولا زالت، مثلا مغلوطا، يستخدمه الذين يتوهمون أن الظلم يمكن أن يفضي إلى التنمية والاستقرار.

لكن، "هنروح ونقول لمين؟". 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.