ثلاث جنائز

08 ابريل 2020
سعاد العطار / العراق (جزء من لوحة)
+ الخط -

- أبلِغوها بلطف!

- وهل هناك لطفٌ في هذه الأخبار؟

أطفِئوا مكبّر الصوت وعلّلوا لها الأمر بعُطل فيه. غنّت بصوتها وهي ترفض أن تتوقّف الزفة. استلمت الأمر بالنيابة عن منى علي... صوتها يرتفع بقوّة. تصرخ في النسوة حولها:

- جهِّزن كل شيء.

لا أحد يجيبها. يواصلن العمل دون توقف. كلُّ شيء جاهز. لا ينقص سوى وصول العريس.

- أنتِ اذهبي وأخبريها الآن.

جثامين في طريقها إلى القرية. الطريق ذاتها التي كانت محلّ شروقهم كلّما غابوا لأي مكان.

- أُمّي...

وانهارت بعدها.

- ما بك؟ لم تجدي خاتمك... انسَي الأمر... عرس أخيك الآن، لا وقت لدينا، إنه قادم... استقبليه بزغرودة من زغاريدك.

- أُمّي...

- هيا أسرعي.

ودارت تنخل الطحين، ويرتفع صوتها بالغناء. تقدَّم زوجها:

- لله درّ صوتك.

ثم اختنق. توجّست خيفة اختناقه. مال إليها:

- عهدتك صابرة.

قاطعته:

- في كل شيء إلّا الفقد.

ثم غابت عن الوعي وكأن شيئاً همس لها: جثمان ابنك قادم.


■ ■ ■


- لا تُفزعيها! تدرّجي في إبلاغها بالأمر!

صكتْ وجهها:

- خبر الموت دفعة واحدة. كيف أتدرّج يا الله...

البارحة رقصت كما لم تفعل من قبل، تمايلت دون اكتراث. أخيراً ستُزفّ إلى حبيبها. أخيراً نست عائلتها ثأراً قديماً وفتحت صفحة بيضاء.

- ارفعن صوتَ المسجّل...

أُمّي تأخّرت المنقشة.

هند تعالي نفرز ملابسي القديمة.

- ابنتي.

وتلت عليها الخبر. تقيّأت دماً حينها ولم تتحرّك، ثم سكن كلُّ شيء لدقائق.

كيلومتر من كل هذا إلى الوادي، حين دوّى صوت هناك:

- ياااااا سندي...

احتار بعدها الجبل في تمييز ذاك السند... أب، أخ، ابن؟ ثمّ استمر في ترديد صوتها.

- ياااا سندي... يااااا سندي

ستّة منازل من خيمة العرس ثم حارة المسجد. الحارة المرصوصة بالحجارة. هنا ستصل جنازة وحيد أمّه. باعت من أجله اللبن. خسرت كل ما لديها من حلي لتعلّمه. مات والده وهو في السادسة ونبذه أهله لأنّ أمه ليست من طينتهم. الحصى يصدر صوتاً يشبه النواح هناك.

- يا الله ما هذه الغمّة!

- أين أمّه؟!

- في الوادي... غائبة عن الوعي...

- الله يا جابر الكسور... لاحول ولا قوة...

كل شيء يتكرّر... موت... جنازة... تفحّم... طائرة... وجع.. حتى الوادي مستمرّ فيترديد صوتها:

- يا سندي...


■ ■ ■


قبل يومين من كلّ هذا اجتمع الناس بشكل دائري... رقصوا "البرع" مجموعات، ونسوا مع كل دورة كل النكبات السابقة... قبل يومين من الوجع أفسحت حلقة الرقص للعريس المتعلّم... رقص ورافقه ووالده وصديقاه... ثم أمطرت السماء.

مساحة القرية ليست كبيرة لتحتوي كل هذا الفزع... ولتُزفّ إليها ثلاث جنائز دفعة واحدة. في أعلى مكان فيها يتربّع حصن عتيق، كان الحصن أوّلَ من سمع بالخبر... خبر القصف... ثم فقدان الثلاثة...

- أُقسم أنّني سأرمي هذه السيارة من رأس الجبل... هذه المرّة السادسة التي أُوصل فيها جثثاً إلى القرى.. أنا أُهدي لهم الوجع بسيّارتي هذه.

- الحمد لله أننا وجدنا جثثهم ولم تصبح رماداً!

- وما الفارق؟ مَن تفحّم ومن هو بجسد سليم، كلاهما غادر بلا عودة.

الخريطة تتنفّس الوجع... غبار من بحرها والبر... لا مكان في الخريطة لا يحفر قبراً... التراب يتصاعد... لم يحصوا عدد الجثث... لكن الرماد كثير والأطراف أكثر!

- يا مغيث..

لا شيء يشبه نفسه في القرية... البعض مخنوق ويبحث عن دمعة والبعض الآخر يتمنّى أن لو يتوقّف عن البكاء حتى تصل الجنائز.

من كان يدري أنّ الموت سيأخذهم دفعة واحدة... ثلاثة أصدقاء ولهم رابع في الغربة... لم يصله الخبر بعد... هو أكبر من الثلاثة بخمسة أعوام... أمّا هم فكان ميلادهم في يوم واحد... واجتمعوا في صفّ واحد... على كرسي وحيد... تفرّقوا في الجامعة لكن أرواحهم بقيت واحدة... لا تفرّقهم الساعات إلّا واجتمعوا.

- متى يصلون؟

- لا أدري وكأن الطريق طالت أكثر من العادة!

- ليتها تطول أكثر!

- ثلاثة مرّة واحدة يا الله وأحدهم في عرسه!

- استغفروا لعلّها تنجلي!

- يااااااا سندي...

- لا حول ولا قوة..

لم تستعد من ذي قبل القرية لعرس كهذا... رُصّت الأضواء الملوّنة على محيطها... مكبّرات الصوت توزّعت... غناء من أسفل القرية وأعلاها.

حين غادر القرية للعزاء... لامه الناس ووبّخوا والده:

- عريس ويذهب للعزاء... هذا جنون!

وكأنهم كانوا على إحساس تام بكل ما حدث.

نسوا كم مرّة جلبوا الحطب على ظهورهم لعجوز تسكن أسفل القرية... كم نظّفوا مجاري المياه لتكون أكثر نقاء أيام الصيف... كم لبسوا لباس نساء وتنكّروا في الأعراس.. فخلقوا لحظات لا تتكرّر... كانوا هكذا يفكّرون في عز سعادتهم بإسعاد غيرهم... بمشاركتهم أوجاعهم... بالعزاء وقت أفراحهم.

- وصلوا!

- إنهم في مدخل القرية الفرعي.

- الحصن أول من ستصله الجنازة وتمر به الجنازتان!

- أعان الله أمّه وشقيقاته... كان أكثر إخوته حنية عليهن.

- يا الله...

وزّعوا الجنائز... أول القرية وأوسطها ثم آخرها... لا مكان فيها يمكن أن يدثر نفسه من صوت البكاء أو من جرعات الحزن... أو حتى من شهيق يصل لأقصى مكان للشعور.

هم ثلاثة من بين العشرات الذين لم يعد لهم ملامح أو أطراف... كم من قلب سيُدفن مع يدين لم تمسكاه إطلاقاً حين وخزه الوجع ذات مرّة... وكم من أطراف تنكر جسداً.

الخريطة تَدفن.. والسماء ترعد لكنها لا تمطر... نواح من هنا وهناك... ومزيد من الأشلاء إلى قرى أخرى تُزف.


* كاتبة من اليمن

المساهمون