ثقافة هزيمة ومثقف مهزوم
أن تمطر في موسكو، فيرفع الرفاق المظلات في دمشق، لم يكن أمراً يثير السخرية، قبل عقدين أو ثلاثة، مثلما هو الحال اليوم، بل إن جيلاً كاملاً من المثقفين والسياسيين، كانت مظلتهم السياسية وأحكامهم القيمية وحيزهم المعرفي، مُستقدمة من الفهم الموسكوي للماركسية واللينينية وطباقهما الستاليني، كما أن تلك الخلطة بين المفكر والسياسي والقائد البروليتاري على التوالي، بقيت مفضلة عند كبار "عمال السياسة" وأرباب الثقافة المؤدلجة في وقتها.
وبعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، التي كانت هزيمةً كليّة المعاني للحكم العسكري، الذي أطلق على انقلاباته اسم "الثورة"، والذي استلم زمام "الدول" في بلاد الشام والعراق ومصر، هرع مفكرو المنظومة العسكرية ومثقفوها، لتبرير الهزيمة والرد على الردّة الدينية التي اجتاحت العالم العربي، تدين "الحكم العلماني" والابتعاد عن الدين، الذي أدى إلى الهزيمة باعتقادها. ولكن، بدل نسف الأساس السياسي والمعرفي لعلمانية العسكر المضحكة المبكية، تفرغ المثقفون لشؤون أخرى، بينما تفرغ الحكام لبناء معابدهم وديكتاتورياتهم على جثة الصراع "النخبوي" بين الأصالة والمعاصرة و"الثابت والمتحول".
وحل وباء الهرب من المواجهة، وكأي وباء، لم يصب اليساريين وحدهم، بل أصاب أخوتهم في الصراع والهزيمة، أيضاً، أي الإسلاميين، فقد اتجهت الثقافة الإسلامية العالِمة نحو متعة إصلاح الإسلام و"التفكير في زمن التكفير"، أو بهجة "الإسلام هو الحل"، أو وثوقية "الإسلام دين ودولة"، بالإضافة إلى الجلوس الأكيد في مجلس العداء للإمبريالية الواسع، بينما راكم الإسلام السياسي تنقلاته بين المواقف، مثلما راكم مظلوميته واحتكاره الطهراني معنى "الخير السياسي".
للهزائم سحرها، أيضاً، ولكن، أن تهزم العسكرة في الـ 67، وتهزم السياسة والأيديولوجيا في الـ 89، وبينهما تُهزم الثقافة والتربية والمجتمعات على يد نظام الممانعة، وأخوته الأعداء في العراق ومصر، في الثمانينيات، من دون أن يغير مثقفو الأنظمة منهجهم ورؤيتهم، أو يتصدرون للكتابة، بما يسمي الأشياء بأسمائها، ويتناول المستبد لا الاستبداد عموماً، والحاكم العسكري لا الحاكم العربي، عموماً، والجمهورية الملكية البربرية، لا الوطن العربي، الذي فرقه الاستعمار وعمالة الأنظمة...إلخ، كل ذاك اليأس والهروب من مواجهة سؤال الحرية أمام روح الهزائم المتكررة، واستبطان الهزائم، يجعلنا نستوعب ظواهر النكوصية والـ"نوستالجية" التي يعيشها مثقفو الأنظمة العسكرية اليوم.
وضمن الثورة السورية تحديداً، انقسم المثقفون والسياسيون في أثناء الثورة بين من يعول على الشعب (كل الشعب) ومن يعول على الغرب، وأحياناً من يعول ضمناً على الغرب وعلناً على الشعب. ولذلك، نجد، اليوم، أن نقمة هؤلاء تتجه نحو من كانوا مصدر تعويل، وباتوا مصدر خذلان، في كلا الحالتين.
هناك نفي وإنكار لمسؤولية الذات، بفعلها السياسي أو حكمها المعرفي والأخلاقي، مع أن ما يحتاجه الشعب، أو الغرب، لا تبرير عدم انتفاضه من أجل سورية والسوريين، بل التفكير النقدي المسؤول بأسبابه الخاصة والعامة، وتفهم عدم الانتفاض ذاك، والفرق شاسع بين التبرير والتفكير، والأهم من ذلك كله أنه موقف مسؤول، ينقل المسؤولية، بالدرجة الأولى، نحو الذات وعيوبها، لا نحو الهمجية والطائفية أو الغرب العنصري.
وكان ذلك سيجعل الموقف أفضل من فكفكة المركزية المحكمة، التي يقوم عليها النظام، والقائمة، منذ عقود، على الثقل السياسي والثقافي والوجودي لجملة (أنا أو الفوضى) وفروعها. ولم يواجه مثقفونا "القدامى"، لا فردياً ولا حزبياً، هزائمهم، ولم تواجه ثقافتنا هزيمتها، لكن الثورة السورية مطحنة المواجهة الكبرى، تطحننا جميعاً لتعيد خلقنا من رماد الهزائم.