ثقافة التّسامح الدّيني في المجتمعات العربيّة

04 ابريل 2014

عيش مشترك بين المسلمين و المسيحين في بيت لحم

+ الخط -

"قال السيّد المسيح للكنعانيّة: ما أعظم إيمانك أيّتها المرأة، فليكن لك ما تريدين".
لمنظّمي هذا المؤتمر، أتقدّم بجزيل الشّكر لدعوتهم إيّاي من القدس، فلسطين، مهد المسيحيّة وعاصمتها، زهرة المدائن، مدينة الملك المُتعالِ القائم من بين الأموات، عاصمة القيامة السيّديّة، وأولى القِبلتين، إلى هذا القُطر السّعيد المضياف قطر، حيث أصول العروبة وجذور الشّهامة ورموز المروءة والرقيّ، حيث يجتمع الماضي الأبيّ بالحاضر الثّريّ.
ويزيد شكري لضرورة التّسامح الدّيني في الوطن العربيّ المعاصر، بعدما عصفت عليه، في العقد الأخير والعقد السّابق له، عواصف الفتنة، وهي "أشدّ من القتل"، والعنف والتّمييز، المطالِبة باللون الواحد والطّيف الواحد حتّى داخل الدّين الواحد. ومثل امرئ القيس، يرجو المرء أن "ينجلي اللّيل الطّويل"، والأمل أن يكون الإصباح "منه أمثل"!
1- مصادر التّسامح الدّينيّ العربيّ الإسلاميّ المسيحيّ
ليس المقام، هنا، في سبيل "مهرجان خطابيّ"، بل لحوار صادق صريح.
يأتي التّسامح، أوّلاً، من الكتب الّتي نقدّسها، مسلمين ومسيحيّين، تحت الخيمة العربيّة، إذ وردت آيات تدعو إلى التّسامح والأريحيّة. والتّسامح قبول الآخر، والآخر "أخ" زِيد عليه حرف راء، في معتقداته، من غير تأييده ولا مشاطرته إيّاها، من باب رحابة الصّدر وسعة الآفاق وسلامة النيّة ونقاوة الطويّة من أجل عيش مشترك في المعاملة الحسنة ـ "والدّين المعاملة" ـ واحتراماً لحقوق الآخر وحرّيّته مع أمل ـ بل طلب احترامه حقوقنا وحرّيتنا.
تنبّا أشعيا (الفصل الثاني) بأنّ الشّعوب، كافّة، ستصعد إلى هيكل الرب في المدينة المقدّسة. وقال داود النبيّ في المزامير (الزَّبور) إنّ "كلّ الأمم وُلدت في أورشالم". أمّا يوحنّا (يحيى) المعمدان بن زكريّا فأنّب معشر العبرانيّين: "لا تعلّلوا النّفس بقولكم: نحن أبناء إبراهيم! إنّ الله قادر، من هذه الحجارة (في الآراميّة "أبانين") أَن يقيم بنين ("بانين") لإبراهيم"، وما تردّد أن يستقبل جنوداً رومانيّين تائبين.
وأتى السيّد المسيح متمّاً الشّريعة والأنبياء، وخاطب باحترام وصراحة سامريّة، عند بئر يعقوب قرب نابلس المعاصرة، وشفى بنت الكنعانية، وغلام قائد المئة الروماني. وأمير الحواريين بطرس أَعلن، في بيت الضابط من الفرقة الإيطاليّة قرنيليوس في قيصرية البحر: "الآن علمتُ يقيناً أنّ الله لا يفضّل أحداً على أحد، فكلّ مَن اتّقاه، تعالى، وعمل البِرّ، كان لديه مرضيّاً".
وليس الدّاعي بحاجة إلى أن يفسّر النصوص الإسلاميّة، ولا أن يتجاوز العلماء والأئمّة. وحسبه أَن يذكّر بما يعرفه الحضور الكريم أكثر منه أنّ الله "لو شاء لجعلنا أمّة واحدة".
وفي الوقت نفسه، نصوص في كتبنا التي نقدّسها تدعو إلى "دين الحقّ"، ويعتقد كلٌّ أنه صاحبه. ولعلّ الحلّ هو الاقتناع بحقيقة ديني أنا وقبولي الآخر، وأحياناً عرضي عليه إيماني بالموعظة الحسنة، فمَن شاء أَن يؤمن آمن.
المصدر الثاني للتسامح الديني بيننا، نحن العرب، هو نفسية العربيّ. فالبادية مترامية الأطراف، واسعة الآفاق أريحيّة المعشر. هذا في شبه الجزيرة، أمّا الأقطار العربيّة التي دخلتها العروبة بعد الإسلام، فقد فقدت الكثير من أَلسنتها الأصليّة وتراثها، ولكن، لاحقاً، جمعت شيئاً من حضارتها الماضية مع خصائص الدين الجديد، وانصهرت تحت الخيمة العربيّة الحضارات الفرعونية والآشوريّة والكنعانيّة والرومانية والبيزنطيّة والبربريّة وسواها. وهكذا، تمتّع العرب، مسيحيين ومسلمين، بمرونة وتعدّديّة، عليها كانوا يُحْسَدون، كانوا.
ومن العوامل الحديثة للتّسامح الدّيني بيننا نضال شعوبنا ـ من المحيط إلى الخليج ـ لكسر نير الاستعمار والانتداب والحكم الأجنبيّ والاحتلال. فقاد الجهادَ الوطنيَّ مسلمو بلادنا ومسيحيّوها في مسيرة واحدة، لا فرق فيها بين قبطي ومسلم ومارونيّ وشيعيّ.
ونعمت بلاد العرب أوطاننا، ثالثاً، من روح التفتّح والتوسّع الفكريّ الّذي حصل بتقارب البعيدين عن طريق وسائل النقل والاتّصال، وخصوصاً عن طريق وثائق أمميّة، منها "خارطة حقوق الإنسان" سنة 1948.
وقبل أن نتكلّم عن تفاصيل التّسامح الدّينيّ، يحلو لنا أَن نذكر أنّ اللفظة اللاتينية التي تشير إلى الديانة هي "رليجيو" religio من فعل "رليجاره" أي "ربط"، فالمفروض في الدين أن يربط بين الناس، لا أن يجعل بينهم قطيعة. وفي المفهوم الكنعانيّ العربيّ "دين" تعني "الحُكم". وإن كان للناس أَو عليهم، فيجب أَن يتمّ "بالّتي هي أحسن"، كما يوصي الإناء المختار رسول الأمم بولس: "اعملوا للحقّ بالمحبّة..."، "لو كان لي الإيمان كلّه، حتّى أنقل الجبال، ولم تكن فيّ المحبّة،  فلستُ بشيء"!
وقد يقول قائل: إنّ الدّين يُعقّد الأمور أحياناً، وهنالك في الماضي والحاضر حروب دينيّة، بحيث أنّ اللامبالاة في الدّين أو الإلحاد ـ حاشا وكلاّ ـ أفضل! الإلحاد "كُفر"، حسب المعنى الأصليّ الكنعانيّ للكلمة، أي "إنكار للذات الإلهيّة، ولواقع الخالق بديع السموات والأرض"، واللامبالاة نقيض الشعور والمودّة، فهي إحساس سلبي ـ إذا جاز أن يوصف بالإحساس ـ ويبعث على الخمول والبرودة والرّكود.

2- تفاصيل التّسامح العربيّ الدينيّ، خصوصاً، في الماضي القريب.
"بصراحة ربّنا"، لا فضل لنا، نحن المسيحيّين العرب، في القرون الحديثة، في التّسامح، بما أنّنا أمسينا نفراً قليلاً (لا "أقلّيات" أو "جاليات" أجنبيّة، فنحن في أوطاننا) ونحن ضعفاء، ما خلا في لبنان، حتّى الخمسينات من القرن الماضي تقريباً. وتمّت فينا، وتتمّ، كلمات المزمور: "أمسوا قليلين أذلاّء، لشديد وطأة العناء والشّقاء". ولكن، يظهر تسامحنا نحو المسلمين، وسواهم، من مواطنينا داخل مؤسساتنا، حيث السّواد الأعظم من الذين نخدمهم هم مسلمون: مثلا "البعثة البابوية للاجئين الفلسطينيين" تخدم المسلمين بنسبة 99 بالمئة، وفي مدارسنا في مدينة غزّة أكثر من تسعين بالمئة من الطلاّب والطالبات مسلمون، ومقابل نحو ثلاثين ألف مريض مسلم هناك فقط خمسة آلاف مريض مسيحيّ تسعفهم مؤسسة "كاريتاس" الخيريّة في فلسطين. ولا مشكلة عندنا أَن يكون أحد الأطبّاء أو المعلّمين المسلمين مديراً لأحد مستشفياتنا، أو مراكزنا التنموية.
وكان التّسامح الدينيّ يعم فلسطين والاردنّ وما زال، بشكل عام، مع تجاوزات واعتداءات ومظالم هنا وهناك. ولكن، يعرف القاصي والداني ما أَلمّ بمصر والعراق وسوريا. ليس فقط بمسيحيّيها، بل بمسلميها، وقد عانى خلق منهم كثير من الاضطهاد، حتّى الدم وأنواع من الإبادة، فاغتال المسلم المسلم، قبل أن يغتال المسيحيّ. وليس للداعي إلمام بتشخيص الواقفين وراء هذه المآسي، والتطرّف العنيف الذي يعبّر عنه بكلمات. يكتب مار صفرونيوس، بطريرك المدينة المقدّسة، وما أشبه اليوم بالأمس: "لماذا هذه الصلبان المكسّرة، والكنائس المدمّرة، وقتل البشر بسيف قاسٍ"، امتدّ على رقاب المسلمين والمسيحيين، أي "الآخرين" المرفوضين حتّى القتل!
ومن الناحية الإسلاميّة العربيّة، يعرف المسيحيون العرب أَنهم يتمتّعون في كلّ ديار العرب، ما خلا إحداها، وأحسبها السعوديّة، بحريّة العبادة، ولهم "بِيَعٌ وصوامع يُذكر فيها اسم الله كثيراً". ولكن، لا حريّة دينيّة، لا للمسلم ولا للمسيحيّ، بمعنى حريّة تغيير الديانة، بحيث أنّ معظم الدول العربية ـ ما خلا تونس بورقيبة، على ما أذكر، ما وافقت على هذا البند الثامن عشر في وثيقة حقوق الإنسان. والواقع أنّ المجتمع الإسلاميّ يعطي غير المسلمين الحقّ في الدخول في الإسلام (وهذا حقّ لسنا له متحمّسين!)، ويُرفَض على المسلمين الدخول في دين آخر. ويمنع المجتمع المسلم المسيحيين من التبشير (قانون التكفير والهجرة، ويقابل قانوناً عبريّاً منذ سنة 979)، في حين يقبل المسلمون مبدأ الدعوة، أي أن يدعو المسلمون المسيحيين، وسواهم، إلى الإسلام.
وفي مجال التربية والتعليم، يتمّ، مع الأسف الشّديد، إغفال السيّد المسيح نفسه وحوارييه، والتاريخ المسيحي في القرون السبعة الأولى الميلاديّة من كتب التاريخ المدرسي والجامعيّ، ما عدا لبنان سابقاً والعراق حديثاً. وتمنع بعض الدول مواطنيها العرب المسيحيين من تدريس اللغة العربيّة والتاريخ.
طبعاً، هنالك، مع الأسف، ضغوط اجتماعية، كبيرة وكثيرة، على المسيحيين العرب، في أوطانهم، حتّى قبل الحروب الأهلية في مصر والعراق وسوريا، وليس أقلّها الضّغط الديموغرافيّ. وبكل أسف، يغادر المسيحي العربيّ وطنه، حيث يشعر، غالباً، بالغربة، ويعيش في الغرب، حيث لا يشعر بالغربة، ولا يرغب في العودة. ويبدو أنّ بعض الجهات تقصد هجرة المسيحيين العرب "لغرضٍ في نفس يعقوب".
وتدهور عدد المسيحيين، في العقدين الأخيرين، في أوطانهم العربيّة، بحيث لم يبقَ للمسلمين مجال "للتّسامح": مع مَن يتسامحون، عندما ما بقي أحد غيرهم في أوطانهم؟ وهكذا، قضى مسلمون كثيرون، بقصد أم غير قصد، الله أعلم، على الجسر الطّبيعيّ بين العرب والغرب، أي المسيحيين العرب.
على هذا الأساس، بحضور عدد كبير من كبار الأئمة والعلماء هنا، من هذا المنبر الأغرّ، أستصدر فتوى تجرّم تهجير المسيحيين العرب القسريّ من أوطانهم، إشارة إلى حسن نيّة، وإشعاراً ببداية جديدة، بعد الوقوف على الأشلاء والأطلال.
في هذا السّياق، يبدو فصل الدّين عن الدّولة من أمثل الحلول. وما اخترع الأعاجم هذا الفصل الذي به يتشدّقون كأنهم اكتشفوا المرّيخ، فقد أعلن عنه السيّد المسيح في القول السيّديّ المأثور: "أدّوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"!
هذا المؤتمر، وأمثاله، حيث كما يقول الكتاب المقدس، "القوم النجباء" ذوو النية الحسنة والطويّة المرنة، كفيل بأن يكون نقطة انطلاق، لتثبيت الأوضاع الحميدة، وتغيير المتردية، حيث الفرقة والنعرة والفتنة، فننقل إلى "الفعل والحقّ" ما نقوله ونسمعه من حلو الكلام وعذبه. وأملنا كبير، ونحن نتحاور "بوداعة ووقار"، حسب توصية القديس بطرس، من زعمائنا الدينيين الدوليين، مثل قداسة البابا وكبار رجال الدين المسلمين، ومن القائمين على الشؤون الدينية في أوطاننا، أن "يتعارفوا"، إذ جعلهم الله "شعوباً وقبائل" ومذاهب، وأن تنمو بينهم المودّة، بما أننا معشر المسيحيين "أقرب الناس مودّة للذين آمنوا، لأنّ فينا قسّيسين ورهباناً،  ونحن من القوم الذين لا يستكبرون" بعون الله!
وأختم بتوصية الرسول بولس:"فوق هذه كلّها، إلبسوا المحبّة: إنّها رباط الكمال"!

 _______________________________
ورقة قدمها الأب بيتر مادروس في مؤتمر "الوحدة الوطنية والعيش المشترك" والذي عقد في الدوحة يومي 2 و3 إبريل/ نيسان الجاري، وخص "العربي الجديد" بنشرها.

 

دلالات
DEF145CE-92C5-4D57-B0BC-152BE286D47C
الأب بيتر مدروس

كاهن يقيم في بيت لحم، حائز على الدكتوراة في اللاهوت. سمي كاهنا في 1972، وفي 1981 عين كاهنا مساعدا في رعبة بيت جالا، وفي 1989، عين كاهن رعية بيت ساحور، وأصبح كاهنا مساعدا في رام الله في 1995.