تونس والعدالة الانتقالية

05 اغسطس 2015
+ الخط -
العدالة الانتقاليّة، بما هي مشروع إنصاف المستضعفين، ومسار مساءلة الظّالمين ومحاسبتهم، مطلب مهمّ من بين المطالب التي قامت من أجلها الثّورة، فانتقال الظّلم في عهد الدّيكتاتوريّة من كونه حالة طارئة، يمارسها الأفراد في الدّولة المستبدّة، إلى كونه خياراً منهجيّاً مهيمناً على سياسات الدّولة القامعة في تعاملها مع المواطنين عموماً، ومع المعارضين خصوصاً، معطى أساسيّ، ساهم في تشكيل الوعي بالقمع، وفي بلورة الشّعور بالرّغبة في ردّ القمع، ودحر القامِع لدى قطاع كبير من المواطنين. وجسّد حدث الثّورة رغبة جماعيّة أكيدة في إطاحة المستبدّ وأعوانه ونمط حكمه، شوقاً إلى إقامة الدّولة العادلة بديلاً من الدّولة الجائرة، ويُفترض في الدّولة الجديدة أن تقطع مع حقب الحكم الأحادي وأشكال النّظام القهري المتسلّط، من قبيل الحيف الاجتماعي والإقصاء السّياسي والعنف الدّيني، والقمع الفكري، والتّعذيب النّفسي والجسدي، ونهب المال العامّ، ومصادرة الحرّيات العامّة والخاصّة.
ويلاحظ الدّارس، أنّ إجماع جلّ التونسيّين، بعد الثّورة، على ضرورة إنصاف من طاولتهم سياط العذاب في عهد الدّيكتاتوريّة، لم يمنع بعضهم من التّشويش على مسار العدالة الانتقاليّة، وتقديمه إلى النّاس في شكل دعائيّ/ إعلامي، يقلب الحقائق، ويفرغ مشروع العدل المنتظر من مفهومه، من روحه الأساسيّة القائمة على الإنصاف والمساءلة والمحاسبة، وفتح أبواب المصالحة، إن وَجد، إلى ذلك، سبيلاً.
ومن أبرز المغالطات المتداولة، حاليّاً، بشأن العدالة الانتقاليّة، يمكن أن نذكر فهم بعضهم العدالة الانتقاليّة فهماً جزئيّاً، واعتبارهم هذا النّهج في الإصلاح قاصراً على النّظر في القضايا السياسيّة، والأضرار اللاّحقة بمساجين الرّأي دون غيرهم، والحال أنّ العدالة الانتقاليّة متعلّقة بالنّظر في تجاوزات شتّى، تعلّقت بمجالات حيويّة عدّة، ضمن جهاز الدّولة، من قبيل الاقتصاد والصحّة والتّعليم والتّجارة، وغير ذلك كثير. ففي تلك المجالات جميعاً، هناك مفسدون، وهناك ضحايا لا محالة. لذلك، العدالة الانتقاليّة شاملة لذلك كله وغيره، ولا تقتصر على محنة السياسيّين دون سواهم. ويذهب طيف من الإعلاميّين والمثقّفين في تونس، على سبيل المغالطة، إلى اعتبار العدالة الانتقاليّة مشروعاً، يروم خدمة الإسلاميّين دون غيرهم، وإعادة الاعتبار لهم دون سواهم. والحقّ خلاف ذلك، فالعدالة الانتقاليّة موجّهة إلى إنصاف المظلومين مطلقاً، في عهد الدّولة القامعة زمن بورقيبة وبن علي، على اختلاف انتماءاتهم السياسيّة والحزبيّة والأيديولوجيّة والجهويّة والدّينيّة، لأنّ الظلّم منهج اعتمدته الدّولة المستبدّة، وخيار مارسته ضدّ كلّ معارضيها في غير تفريق، وسوط العذاب كان مسلّطاً على كلّ من تجرّأ على الحاكم بأمره، وقال لا للاستبداد، فدفع ضريبة الحرّية التي يعيشها، اليوم، مناضلون ومناضلات كثيرون انتموا إلى الطّيف السياسي التّونسي المعارض بتنويعاته المختلفة، من إسلاميّين وقوميّين وليبراليّين واشتراكيّين وغيرهم. وبذلك، استرداد الحقّ المستلب يَهمّ هؤلاء جميعاً الذين عانوا كثيراً، ويفترض أن تعترف المجموعة الوطنيّة بفضلهم، وتردّ الاعتبار لهم.

ويروّج آخرون مقاربة تجزيئيّة للعدالة الانتقاليّة، مؤدّاها اعتبارها مجرّد كشف للحقيقة، يقتضي المصالحة بين الظالم والمظلوم، وطيّ صفحة الماضي إلى الأبد، في حفل اعتراف بالذّنب من جانب المُذنب، وتفويض بالغفران من جانب المظلوم. والواقع أنّ هذه المقاربة، مع أنّها ممكنة، يبقى إجراؤها قريباً من الطّوباويّة منه إلى الإمكان، لأنّ تنازل المظلوم عن حقّه لا يعني تنازل الدّولة عن حقّها، في تتبّع المخالف ومحاسبته قانونيّاً، فلا معنى للمصالحة من دون محاسبة. ويسعى بعضهم إلى تصوير العدالة الانتقاليّة على أنّها مناسبة لتقديم تعويض مادّي للضّحايا، وهذا التصوّر مؤسّس على خلفيّة فكريّة، تروم تقزيم جهد المناضلين، واعتباره فعلاً ماضويّاً يكافأ أصحابه بعدد من الدّريهمات، في إطار ما تسمّى "التّعويضات". والرّأي عندي أنّ هذا المصطلح لا يفي بالمراد، باعتباره يُخبر، على جهة التّضمين أو التّصريح، بمقايضة جهد الضحيّة ونضالاته بمبلغ ماليّ مخصوص. والحال أنّ نضال سنوات الجمر لا يُعوّض بأموال قارون، وما خسره النّاس من أعمارهم وأحلامهم وأجسادهم وحيواتهم أثمن من مال الدّنيا، وحسبنا قول فولتير: "وقوفي لحظة واحدة في السّجن ينسيني ألف كتاب قرأته عن الحرّية". لذلك، من الموضوعي، هنا، الحديث "جبر الضّرر" باعتباره مصطلحاً دالاًّ على حصول الضّرر بالضّرورة، ومُخبراً بالسّعي إلى ردّ الاعتبار للمتضرّر، نفسيّاً وأخلاقيّاً وماديّاً ومعنويّاً.
ويعمد بعضهم إلى تسطيح نضالات التونسيّات والتونسيّين أيّام الدّيكتاتوريّة، ولا يتورّعون في القول، إنّهم لم يكلّفوا أحداً بالنّضال بدلاً منهم، أو بالخروج على النّظام المتسلّط على رقاب النّاس، وهذا المذهب مؤسّس على تبرير ثقافة الخوف، والتّشريع لزمن الظّلم قبليّاً وبعديّاً، وهو موقف يستبطن حنيناً إلى زمن الاستبداد، وشوقاً إلى إحياء عصر الدّولة القامعة، بل هو موقف غير مسؤول، يبحث أدعياؤه عن شرعيّة موهومة، لصمتهم واستكانتهم ورضاهم بواقع البؤس الحضاري المشهود زمن الدّولة الجائرة، وأحرى بهؤلاء أن يعتذروا للمناضلين والمساجين السياسيّين والجرحى والشّهداء والمفقودين الذين عذّبتهم الدّولة الطّاغية، وما كان جرم المناضلات والمناضلين سوى نقدهم الاستبداد، في زمن كان فيه آخرون يمتهنون حرفة التّصفيق للدّيكتاتور، ويحاذون الجدران القائمة، ولا ينبسون ببنت شفة في إدانة انتهاكات حقوق المواطنين العزّل، وفي مواجهة آلة الدّولة البوليسيّة القاهرة.
وثمّة مغالطة أخرى، يرفعها أنصار المصالحة في غير محاسبة، عنوانها أنه لا مجال لأن تعتذر الدّولة عمّا حصل في سنوات القمع. والحقيقة أنّ هذا الرّأي لا يسلم لأصحابه، لأنّ الدّولة باعتبارها كياناً سياديّاً تنفيذيّاً كانت مشرّعة لسياسات القمع، تحت طائلة قانون مكافحة الإرهاب 2003، وتخويف المعارضين، وكانت مشرفة على فبركة مسرحيّات الانقلاب على الدّولة، وكانت الأجهزة الإعلاميّة والبوليسيّة والدّيكتاتوريّة والقضائيّة خادمة لمطلب شيطنة المخالفين للحاكم المستبدّ، وعاملة، صباحاً مساء، على تهيئة الرأي العامّ للقبول بإقصاء المعارضين، أو نفيهم أو تصفيتهم، وأحرى بالدّولة، اليوم، أن تعتذر عمّا ارتكبته من جرائم في حقّ مواطنيها، قصد التّأسيس لعصر مدنيّ جديد، يقوم على التّواصل بين الحاكم والمحكوم، وعلى تحمّل الدّولة مسؤوليّة ما حصل، وتدارك ما سبق باستصلاح الأجهزة القضائيّة والتشريعيّة والتنفيذيّة، وإعادة الاعتبار إلى المواطن، فيكون الاعتذار سبيلاً إلى التّصالح، وإعادة البناء على أساس صحيح، عسى أن تندمل الجراح، ويستعيد المواطن ثقته في الدّولة، فتكفّ عن كونها جهازاً قامعاً بامتياز، لتصبح جهازاً تفهميّاً تفاعليّاً، حاضناً للنّاس، منفتحاً على مشاغلهم، حامياً لكينونتهم، المبدعة والمعارضة، في آن.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.