لم تكن الشابة التونسية، سيرين بن محمود، والتي حلّت ضيفة بمنزل جدتها الواقع في منطقة شراحيل الكائنة في ولاية المنستير (180 كلم عن العاصمة تونس)، تدرك أنّ ليلتها الأولى ستقضيها في المشفى بسبب مياه الشرب الملوثة.
بمجرد وصولها إلى مشفى المكنين، وجدت سيرين عددا كبيرا من المواطنين، بعضهم كان يصرخ جرّاء أوجاع في المعدة، وآخرون يتقيأون، وقد أكدّوا جميعاً أنهم شربوا مياه الصنبور.
تعتبر المدن الساحلية التونسية أقل حظا من حيث الموارد المائية، إذ يتوفر الشمال على أكبر نسبة من الموارد المائية، نظرا لأهمية التساقطات المطرية ووجود بعض الأودية، ثم يأتي الجنوب في المرتبة الثانية، وذلك بسبب المياه الجوفية، بينما يأتي الوسط في المرتبة الثالثة.
وتصنف تونس تحت معدل الفقر المائي بمعدل 460 متراً مكعباً لكل مواطن في العام، ومن المنتظر أن ينخفض المعدل في عام 2030 إلى 350 متراً مكعباً في حين أن المعدل العالمي يبلغ 1000 متر مكعب للفرد في العام.
اقرأ أيضاً: أزمة اليسار العربي1.. الثورة التونسيّة تمنح الحمر قبلة الحياة
المواطنون يقاطعون مياه الشرب الحكومية
يؤكد عدد من المواطنين من مختلف محافظات سوسة، لـ"العربي الجديد"، أنهم عانوا من مشكلة تلوث مياه الشرب، مما اضطرهم إلى مقاطعتها خوفا من تأثيراتها الصحية عليهم. من هؤلاء العجوز التونسية، للاّهم الأسود (62 عاما)، من قرية "شراحيل"، والتي بدت في حيرة من أمرها وهي ترمق مياه الصنبور المنهمرة، لكن لا يمكنها شربها مثل العادة.
تقول للاّهم، لـ"العربي الجديد": أسرتي لاحظت بداية تغير لون المياه وانبعاث الروائح الكريهة منها منذ حوالى 20 يوما، ومع ذلك لم يجدوا أي تفسير لما يحدث. لم تحل المشكلة مما أصاب، أحفادها وأبناءها بالإسهال والتقيؤ وارتفاع درجات حرارة بعضهم، فتمّ نقلهم إلى مستشفى المكنين.
يسيطر الخوف من مياه الصنبور على أذهان معظم أهالي منطقة شراحيل، فرغم التطمينات الكثيرة التي تناهت إلى مسامعهم والتي تفيد بأن مشكل تلوث المياه انتهى، إلا أنهم لم يستعيدوا ثقتهم في مياه الشرب بعد.
معاناة منطقة شراحيل من مشكلة تلوث مياه الشرب، ليست فريدة من نوعها، فقد سبق لعدة محافظات تونسية أن عانت من مشكلة المياه الملوثة، فمدينة زغوان التي تشتهر بكونها منبعاً للمياه الطبيعية، شهدت في عام 2013 تلوثا في مياه الشرب، مما أدى إلى تسمم 9 تلاميذ.
واشتكى سكان حي الزهور بالقصرين من تلوث مياه الشرب باللون الأسود على غير العادة في يونيو/حزيران من العام الماضي، ورجحت مصادر مسؤولة آنذاك أن مشكلة خزان مياه تابع لشركة توزيع المياه هي السبب، إذ تسربت إليه مياه ملونة من الطبقة المائية، مما أدى إلى غلق الخزان المذكور.
شبكات المياه منتهية الصلاحية
يرى خبراء في الموارد المائية أن شبكات توزيع المياه في تونس، التي تجاوزت في أغلبها عشرين عاما من العمل، تعاني نقصا في الصيانة نتيجة محدودية تدخل الشركة، بالإضافة إلى أن إصلاح الحوادث التي تطرأ على قنوات المياه، ذات الحجم الكبير، يتطلب فترات طويلة، مما يساهم في زيادة تلوث مياه الشرب.
يصف الشرطي التونسي، حمدة، الذي يعمل في جهة الساحل، ما حدث من تلوث مياه الشرب، الكارثة التي حلت على جميع أفراد أسرته، الذين مرضوا الواحد تلو الآخر، مما أدى إلى فوضى عارمة في المنزل، إذ إن ابنه رامي، وابنته شيماء، عانيا من آلام شديدة في البطن.
يقول حمدة لـ"العربي الجديد" إن شكوك الأسرة اتجهت ومنذ الوهلة الأولى إلى مياه الشرب، لأن رائحتها كانت كريهة وطعمها مختلفا.
ويذكر محدثنا أنّ عديد المحافظات التي تشترك في نفس خزان المياه، مثل جهة قصور الساف والمكنين والمنستير والمهدية في الجنوب التونسي، عانت من نفس المشكلة، ألا وهي تلوث مياه الشرب.
يوضح هشام، الممرض بمستشفى المكنين، لـ"العربي الجديد"، إنّ "معدل الحالات التي وصلهتم إلى المستشفى يتراوح بين 5 و6 حالات يوميا، مؤكدا أن أغلب المرضى يعانون من إسهال ومن التقيؤ وآلام بالمعدة، إلى جانب ارتفاع في درجات الحرارة أحيانا. وذكر الممرض أنّ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و6 أعوام شكلوا أكبر نسبة من الوافدين على المشفى.
اقرأ أيضاً: بالصور.. القوارض تجتاح جرجيس التونسية.. تلتهم الأحياء والأموات
عبء شراء المياه
لا يزال متساكنو قرية "شراحيل"، الفقيرة والمهمشة، يتوجسون خيفة من مياه الشرب، مما دفع عدداً من الأهالي إلى المياه المشتراة، لكن الأسر الفقيرة ما تزال تشرب من مياه الصنبور، إذ لا يوجد حل آخر أمامها.
يقول الشاب نذير إنه "في ظل صمت السلطات ازدادت الشائعات، فالسكان يعتقدون أنه تم العثور على جثة امرأة في خزان المياه، وآخرون يتحدثون عن تسرب مياه التطهير إلى الخزانات. الحكايات التي سمعناها كثيرة ولكن الحقيقة إلى اليوم ما زالت غائبة، ولا نعرف ماذا حدث للمياه، لا نستطيع شراء المياه المعدنية أو المعلبة ، ماذا نفعل؟".
اقرأ أيضاً: 4 أسباب تغذي داعش بشباب تونس
الصحة: المسألة ليست وباء
يتدخل مدير إدارة حفظ الصحة وحماية المحيط بوزارة الصحة، محمد الرابحي، قائلا إنه "باستثناء بضع حالات عانى أصحابها من الإسهال والتقيؤ فإن المسألة لم ترتق إلى درجة الإعلان عن حالة وبائية".
وأكدّ الرابحي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنهم لاحظوا في الآونة الأخيرة وجود إشكال في المياه الموجودة في بعض المناطق الساحلية، مشيرا إلى أنهم قاموا بلفت نظر شركة توزيع المياه ودعوتها إلى التدخل وحل الإشكال. ويرى الرابحي أن المسألة مقترنة بالتركيبة الفيزيوكيميائية للمياه، مرجحا تغيير التركيبة بسبب عطب طرأ على الشبكة.
في المقابل، أكد المدير الجهوي للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بالوسط، عادل بلعيد، أن ماء الشرب تخضع لمراقبة دقيقة من قبل أعوان الشركة وكذلك مصالح وزارة الصحة.
وأوضح أنه لا وجود لأية رائحة كريهة في مياه الشرب، وأن تغيّر لونها يكون، في بعض الأحيان، ناجما عن تسرب بعض الأتربة عند القيام بأشغال على مستوى الشبكة العامة، وأن اللون الأبيض سببه وجود بعض الغازات وليس أوساخاً أو أتربة.
وأوضح بلعيد أن تغيّر الطعم ناتج فنيا عن تغيير في نظام تشغيل قنوات التوزيع، بسبب ارتفاع الاستهلاك الناجم عن موجة الحر، التي شهدتها البلاد، حسب تعبيره.
وأفادت الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه (شركة حكومية تهتم بمعالجة وتوزيع المياه) بأن الأخبار، التي تمّ تداولها بخصوص تلوث مياه الشرب، لا أساس لها من الصحة.
وذكر مصدر مسؤول من شركة توزيع المياه، لـ"العربي الجديد"، "أن الشركة كثفت خلال الفترة المتزامنة مع ذروة الاستهلاك، من متابعة عملية تعقيم المياه الموزّعة بمادة الجافال، بمقادير محددة، تضمن بقاء الكلور الراسب في الماء، بكميات تستجيب للمواصفات التونسية والعالمية".
وشدّد المصدر، الذي رفض ذكر اسمه، على أن الشركة قامت بتكثيف حملات المراقبة عبر رفع عدد العينات التي يتمّ تحليلها بصفة دورية، للتأكد من سلامة المياه.
وطمأن المشتركين قائلا إن المياه الموزّعة سليمة وتستجيب للمواصفات التونسية، وذلك بحسب ما أثبتته جميع التحاليل التي أجريت من قبل المصالح المختصة بالشركة وبوزارة الصحة العمومية، وختم :" المياه صالحة للشرب".
يؤكد خبراء ومراقبون أن ما يثقل كاهل الشركة حاليا، ويجعلها عاجزة عن تجديد وصيانة الشبكات، الحجم الضخم للمديونية الخاصة بها، والذي يبلغ 234 مليون دينار، (قرابة 120 مليون دولار أميركي). ويؤكد الخبراء، لـ"العربي الجديد"، أن "الشركة تعاني من حالة تسيب في العديد من الجهات والأحياء، وبعد الثورة ارتفعت قيمة الفواتير غير المسددة"، فيما يؤكد مسؤولون بالشركة أن الحصول على جزء من الديون الخاصة بها لدى المستهلكين، قد يمكّن من حل أغلب مشاكل الشركة وتحسين خدماتها.
وتتحمل الشركة خسارة تقدر بـ 100 مليم كفرق ما بين السعر والكلفة الحقيقية لمياه الشرب، ومنذ 6 أعوام لم يتم تسجيل أية زيادة في أسعار المياه وهو ما انعكس بصفة كبيرة على مداخيل الشركة، وعلى وضعية الشبكة.
الجدير بالذكر أن شركة توزيع المياه في تونس تغطي اليوم 94 بالمائة من الأراضي التونسية، وهدفها الوصول إلى 98 بالمائة في عام 2016 وستعمل الشركة على تغطية الـ2 بالمائة المتبقية، أي ما يعادل 70 ألف ساكن، بالطرق التقليدية أي عبر الخزانات أو الضخ بالطاقة الشمسية.
ولكن في ظلّ التحديات المطروحة والصعوبات الحالية، والتي تؤدي في حالات كثيرة إلى حد قطع الماء عن عديد المحافظات التونسية، هل يمكن للشركة أن تفي بالتزاماتها أم أنّ عليها القيام بالإصلاحات الضرورية على الشبكات التي تآكلت أوّلاً؟.