تونس.. ملفّات على طاولة الرئيس

11 يناير 2020
+ الخط -
استبشر آلاف التونسيين خيرا بتولّي أستاذ القانون الدستوري، قيس سعيّد، مسؤولية رئاسة الجمهورية، عقب فوزه بالدور الثاني للانتخابات الرئاسية (13أكتوبر/ تشرين الأول 2019)، وحصوله على نسبة 72%من أصوات الناخبين، وعلّقوا آمالا كبيرة على الرّجل، باعتباره ذا خلفية ثورية، وأعلن عزمه على النهوض بالبلاد، وعلى محاربة لوبيات الفساد المالي والإداري، والانتقال بتونس من "دولة القانون إلى مجتمع القانون"، وأخبر بحرصه على اتخاذ تدابير تغييرية، تقطع مع المنظومة السياسية التقليدية قبل الثورة وبعدها، ووعد بتمكين الشباب من سلطة القرار، وتعزيز علاقات تونس، بمحيطها المتوسطي والأفريقي والعربي. ورفع الرجل في أثناء حملته الانتخابية شعار"الشعب يريد"، وهو شعار يحمل شحنةً تعبيريةً ثوريةً دالّة على ترسيخ الإرادة الشعبية في سياسة الدولة، والاستجابة لمطالب النّاس في تحقيق التنمية الشاملة، والكرامة، والرّفاه. ولكن يبدو، بعد مرور زهاء تسعين يوما من فوز سعيّد بكرسي قصر قرطاج، أنّ معظم تلك الآمال لم تتحقّق، وأنّ الأوضاع في البلاد لم تتغيّر، خصوصا ما تعلّق بملفّاتٍ حيويةٍ من قبيل تمكين الشباب، وتنفيذ مخرجات العدالة الانتقالية، وتفعيل الدبلوماسية الخارجية عموما، والاقتصادية خصوصا. 
مثّل الشباب نواة شعبيّة فاعلة في الحملة الانتخابيّة لقيس سعيّد، وعوّل عليهم الرّجل في نشر أفكاره الثورية وطموحه إلى التغيير، ووجد هؤلاء في استقلاله عن الطبقة السياسية السائدة، ونزاهته ونظافة يده، وسيرته الأكاديمية، ما أغراهم بالخروج، ولو نسبيّا، من معسكر مقاطعي الانتخابات إلى الانخراط في العمليّة السياسية والمساهمة الطوعية في التعريف به في الفضاء الافتراضي والمجال العام، وتقديمه للنّاس باعتباره نصير الثورة، وابن الشعب، ومرشّح الشباب. وصوّتت له شريحة الشباب بكثافة، خاصّة في الدور الثاني للانتخابات الرّئاسية، وإثر فوزه
المستحقّ على منافسه نبيل القروي، توجّه عشرات الشباب سَيْرا على الأقدام من المناطق الداخلية إلى قصر قرطاج لتهنئة الرّئيس الجديد، والتعبير له عن مشاغلهم وأحلامهم ومشكلاتهم على أمل أن يكون صوتهم العالي لدى أصحاب القرار، وعلى أمل أن يبذل الجهد لإدماجهم في الحياة المهنية، ولإنقاذهم من وطأة البطالة، والتهميش، والإحساس باللاجدوى. ويبدو، بعد ثلاثة أشهر من تولّيه مقاليد الرّئاسة، أنّ حاكم قرطاج الجديد اكتفى بالتعبير عن تفهّمه مشاغل شباب تونس وتعاطفه معهم. ولم يتّخذ بعد تدابير إجرائيةً لإدماج الشباب مهنيّا وسياسيّا. ومن المفارقة هنا أنّ أغلب أعضاء الديوان الرئاسي ومستشاري الرئيس الجديد ليسوا من الشباب، بل معظمهم من الوجوه القديمة. وكان بالإمكان تعزيز الفريق الرئاسي في الداخل، والسلك الدبلوماسي في الخارج، بوجوه شابّة، عالية الكفاءة، تقدّم الإضافة النوعية لمؤسّسة الرّئاسة، وللهياكل التمثيلية لتونس في الخارج. وفي سياق متصلٍ بتمكين الشباب مهنيا، في مقدور رئيس الجمهورية تقديم مبادرات تشريعية لمجلس نوّاب الشعب تتعلّق بتسهيل حصول الباعثين الشباب على قروضٍ صغرى، وكذا اقتراح تأمين الدولة لتكوين مهني تكميلي خارج الاختصاص لخرّيجي شعب العلوم الإنسانية، على نحو يمكّنهم من الانخراط في الدورة التشغيلية.
على الصعيدين، الحقوقي والقانوني، على طاولة الرئيس ملفّات مهمّة، لعلّ أبرزها تنفيذ مخرجات العدالة الانتقالية، وإرساء المحكمة الدستورية، وتعديل قانون الطوارئ. ومعلومٌ أنّ قيس سعيّد عبّر مرارا، قبل فوزه بالرّئاسة وبعده، عن انتصاره لجرحى الثورة وشهدائها ولضحايا الاستبداد، واعتبر إنصاف هؤلاء وردّ الاعتبار لهم من أولوياته. ولكن الثابت أنّ ضحايا الدولة القامعة، زمن الرّاحل الحبيب بورقيبة وخلفه المخلوع زين العابدين بن علي، ما زالوا يعانون بعد تسع سنوات من الثورة ويلات التسويف والمماطلة والتهميش من الجهات الرسمية في الدولة، 
واستمرّت معاناتهم طويلا من دون أن يتمكّنوا من استرداد حقوقهم واستئناف حياتهم الدّراسية، والمهنية، ولم يتمّ جبر الضرر اللاحق بهم نفسيّا ومادّيا. وفي الوقت الذي يتصدّر فيه أعوان الدكتاتورية المنابر الإعلامية والمناصب السياسية، ويتمّ فيه تبييض الحقبة الشمولية، وتأمين إفلات الجلاّدين من العقاب، يتمّ تغييب ضحايا الدولة الشمولية وتجاهل مطالبهم، والتنكّر لحقوقهم، وتتواصل مأساة معاناتهم نفسيّا وبدنيّا، ومنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر. ويُفترض أن يُبادر رئيس الجمهورية، باعتباره الشخصية القيادية العليا الممثلة للدولة في البلاد، بتقديم الاعتذار لضحايا النظام الاستبدادي، ويأذن بالتطبيق العاجل لمخرجات العدالة الانتقالية الواردة في التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة، وفي مقدّمتها ضرورة تفعيل صندوق الكرامة، وجبر الضحايا مادّيا ومعنويا على نحوٍ يساهم في تضميد الجراح، وتحقيق المصالحة الحقيقية بين التونسيين، ويُعيد ذلك ثقة طيفٍ كبيرٍ من المواطنين في الدولة، ويزيد من التفاف جمهور المستضعفين حول الرئيس الجديد.
من جهة أخرى، من المهمّ بمكان أن يجمع الرّئيس المنتخب قادة الكتل الحزبيّة في البرلمان، ويُقنعهم بضرورة بلورة حلّ توافقي لاختيار أعضاء المحكمة الدستورية التي كان يُفترض أن تتشكّل بحسب الدستور في ظرف عام من قيام المجلس التشريعي المنتخب سنة 2014. ولكنّ جهود إحداثها تعثّرت، بسبب غلبة الخلافات الأيديولوجيّة والحسابات الحزبية الضيّقة على الصّالح العام. ومن صلاحيات رئيس الجمهورية اختيار أربعةٍ من أعضاء المحكمة المذكورة، في حين يتوزّع اختيار الثمانية الباقين بالتناصف بين مجلس نوّاب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء. وأهمّية المحكمة الدستورية في أنها أساس متين لإقامة دولة القانون والمؤسّسات، ولتحقيق الحوكمة الرشيدة، فهي ضامنةٌ لاحترام الدستور، وللتوازن بين السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وتختص، دون سواها، بالبتّ في مدى دستورية القوانين قبل دخولها حيّز التنفيذ أو بعده، ومن مشمولاتها النظر في دستورية النظام الداخلي للمجلس النيابي، وفي مشروعية المعاهدات الدولية والتعديلات المزمع إجراؤها على الدستور. ومن ثمّة فإنّ النّجاح في إحداثها سيُعتبر نقلة نوعية في تاريخ المنجز الدستوري في تونس، وسيساهم في ترسيخ الشفافية والنزاهة في إدارة دواليب الدولة.
وفي سياق متّصل، بإمكان رئيس الجمهورية، بحكم خلفيته القانونية والحقوقية، تقديم مبادرة تشريعية لمجلس نوّاب الشعب لتعديل القانون الحالي للطوارئ لما يتضمّنه من تقييد للحرّيات العامّة والخاصّة، وتوسيع لصلاحيات السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية، ولما فيه من صلاحيات استثنائية للأجهزة الأمنية من قبيل منع التجوّل والتجمع والإضراب، وفرض الإقامة الجبرية، وتفتيش المحلات، ومراقبة وسائل الإعلام والأعمال الفنّية، من دون الحصول على إذن مسبق من القضاء. ومعلوم أنّ ذلك يتعارض مع روح دستور2014 الذي يُعلي من قيمة الحرّيات وحقوق الإنسان، وتعتبر حالة الطوارئ حالة نادرة لا تتمّ ولا تُمدّد بأمر رئاسي أو منشور أو قرار إداري، بل بمراجعة المحكمة الدّستورية التي لم تُحدث بعد للأسف. ومن المهمّ أن يدفع رئيس الجمهورية نحو إجراء إصلاحاتٍ في هذا المستوى تكريسا لدولة الحق والواجب، وتحقيقا لجمهورية مواطنية منشودة.
في مستوى العلاقات الخارجية، أعرب الرّئيس المنتخب عن تأييده ضرورة الوصول إلى حلّ
 عادل للقضيّة الفلسطينية، والتقى الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في العاصمة تونس، للتحاور في شأن الأزمة الليبية. وعدا ذلك تعاني تونس حاليا حالة جمود دبلوماسي، ولم تتأكّد دعوتها إلى مؤتمر برلين، ولم يؤدّ الرئيس الجديد زيارة للخارج بعد، والحال أنّ المنطقة تشهد تطوّرات سريعة، ومن الضروري أن تكون تونس حاضرةً في مشاورات بلورة حلّ سلمي لليبيا، وإعادة إعمارها باعتبارها من دول الجوار. وعلى صعيد متّصل، من المهمّ أن تضطلع مؤسّسة الرّئاسة ووزارة الخارجية والهياكل الممثلة لتونس في الخارج بدور فاعل في التعريف بالمنجز الديمقراطي التونسي، وتنشيط الدبلوماسية الاقتصادية، حتّى تصبح تونس وجهة جاذبة للمستثمرين الأجانب. ومن المفيد تعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبّي، ومدّ جسور التواصل مع الدول التي ساندت مشروع الانتقال الديمقراطي في تونس (الولايات المتحدة الأميركية، كندا، بريطانيا، تركيا، قطر..) على نحوٍ يسمح لتونس بتعزيز مكانتها الدبلوماسية الفاعلة، ويساعد على تحقيق الانتقال الاقتصادي المأمول.
ختاما، من المهمّ، بعد فوزه بالرّئاسة، أن ينتقل الرئيس التونسي، قيس سعيّد، من طور الكمون الاستراتيجي إلى طور الظهور الفاعل، وأن يتخذ تدابير تغييرية إجرائية لفائدة الشباب وضحايا الاستبداد، وأن يفعّل الدبلوماسيّة التونسية على نحو يزيد من رصيده الإيجابي لدى التونسيين، وإلاّ فإنّ شعبيته ستتراجع لا محالة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.