شكّلت منافسة حركة "النهضة"، والسعي لخلق توازن سياسي، والمحافظة على النموذج المجتمعي التونسي، شعاراً أساسياً جمّع شتاتاً من السياسيين، ليأسسوا في وقت سابق حزب "نداء تونس". ويبدو السؤال اليوم، هل يتحول التقارب مع "النهضة" إلى عامل تفرقة لمكونات "النداء"، يباعد بينها وبين حلفائها السابقين في "جبهة الإنقاذ الوطني"، التي قامت أساساً للإطاحة بحكومة النهضة؟
ويذهب البعض، بعد ارتفاع أصوات داخل "نداء تونس" تلوّح بانقسام منتظر، إلى حد التساؤل عمّا إذا كانت لعنة الانتصار في الانتخابات التشريعية والرئاسية تصيب "نداء تونس"؟ أم هي لعنة "النهضة" التي بدأت تلاحقه؟
لم يتردّد كثيرون، عند تأسيس حزب "نداء تونس" في شهر يوليو/ تموز 2012، على يد الرئيس المنتخب الباجي قائد السبسي، والعشرات من التونسيين المتحدرين من مشارب فكرية وسياسية مختلفة، في اعتبار الحزب "هجيناً"، وغير قادر على تحقيق التوازن المنشود مع حركة النهضة، التي اكتسحت حينها المشهد السياسي وفازت بالأغلبية في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2011. وألّفت حينها حكومة مع حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية، بزعامة المنصف المرزوقي والتكتّل من أجل العمل والحريّات بزعامة مصطفى بن جعفر. وتمكّن "النداء"، وخصوصاً رئيسه السبسي، من توظيف الأخطاء العديدة التي ارتكبتها "النهضة" وحلفاؤها، مقدّماً نفسه بديلاً سياسياً في تلك الفترة، خصوصاً بعد اغتيال القياديين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، في فبراير/ شباط، ويوليو 2013.
ولم يتأخّر "النداء" في توظيف هذين الاغتيالين، ليجمع حوله العائلتين اليساريّة والقوميّة، اللتين كانتا ترفضان وجوده، باعتباره يضم ممثلين عن النظام المخلوع. فأسّستا ما سمّي حينها بـ"جبهة الإنقاذ الوطني"، التي رسمت لنفسها نظرياً، هدفاً واحداً، هو إخراج حركة النهضة وحلفائها من الحكم. وقد استطاعت تحقيق هدفها من خلال اعتصام المصير، الذي شهدته ساحة باردو، قبالة مقر المجلس الوطني التأسيسي، على امتداد شهرين، وأثمر انسحاب حكومة الترويكا، ليتمّ تشكيل حكومة كفاءات وطنية غير حزبيّة مطلع عام 2014.
وفي سياق متّصل، تفيد مصادر "العربي الجديد" داخل "نداء تونس"، بأن رئيسه (السبسي) اجتمع قبل الانتخابات التشريعية بقيادات الحزب، وخيّرهم بين المهام النيابيّة والمهام الحكوميّة، فاختار بعضهم الترشح إلى مجلس نواب الشعب، فيما فضّل آخرون تولي مسؤوليّات تنفيذيّة داخل الحكومة المقبلة. وتوضح المصادر أن "بعض هذه القيادات يرفض الآن الاتفاق، وبينهم النائبان لزهر العكرمي وسعيد العايدي، اللذان يعتقدان أنهما جديران بمناصب في الحكومة المقبلة، ولا يريان تعارضاً بين مهامهم النيابيّة وتولّي مسؤوليّات حكوميّة"، مضيفة: "هنا تمّ دقّ المسمار الأول في لوحة الخلافات الداخليّة".
أما العامل الخلافي الثاني، فيتعلّق برفض قسم من نواب "النداء" مشاركة النهضة" في الحكومة المقبلة، إذ يعتبرون ذلك خيانة للأمانة التي حمّلهم إياها الشعب الذي اختارهم، بسبب معارضتهم للنهضة وليس للتحالف معها. وتتزعم هذه الفئة وجوه يسارية، مثل النائب بشرى بلحاج حميدة والنائب خميس قسيلة ووجوه نقابية في النداء، أهمهم أمين عام حركة نداء تونس الطيب البكوش.
في المقابل، تعتبر قيادات أخرى في "النداء"، أنّ مشاركة النهضة في الحكومة ضرورة لا بدّ منها لسببين رئيسين، أولهما تكذيب مقولة التفرّد بالسلطة، التي جعلها بعض معارضي "النداء"، وخصوصاً أنصار الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي، شعاراً لتحرّكاتهم السياسيّة. وثانيهما أنّ "النهضة" تشكّل رقماً يصعب تجاوزه في مستقبل العمل الحكومي، باعتبارها تمتلك 69 مقعداً داخل البرلمان. ويعني تحالفها مع ثلاثة نواب، امتلاكها الثلث المعطّل، وهو ما لا يساعد على أداء عمل حكومي ناجع. ويمثل هذا التيّار السبسي وفريقه الرئاسي، وتحديداً مستشاريه، السياسي محسن مرزوق، والقانوني نافع بن عاشور.
ويدفع هذا الخلاف النائب عن النداء والقيادي البارز فيه خميس قسيلة، إلى وصف الفريق الرئاسي المحيط بالسبسي، بأنّه "خطر على تونس"، وهو ما يؤشّر على ارتفاع حدّة الخلاف داخل الحزب، والذي قد يؤدي، وفق ما يكشفه أحد المشاركين في اجتماع كتلة النداء البرلمانية، لـ"العربي الجديد"، إلى تهديد البعض بعدم تزكية الحكومة المقبلة، إذا ضمّت عدداً من الوزراء المحسوبين على "النهضة".
في موازاة ذلك، تتكاثر النيران الصديقة على حزب "نداء تونس". فالجبهة الشعبيّة، (15 مقعداً)، الحليف السابق لـ"النداء" في جبهة الإنقاذ الوطني، والمساندة ضمنياً لتولي السبسي رئاسة الجمهورية في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة، أعلنت صراحة أنّها لن تشارك في حكومة تضمّ وجوهاً من "النهضة" أو مَن سمّتهم بـ"رموز فشل حكومة الترويكا". ويساندها في موقفها هذا، "المسار الديمقراطي الاجتماعي، أحد أبرز داعمي السبسي في حملته الانتخابيّة. وعلى الرغم من أنّه لم يفز بأيّ مقعد في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة، لكنّ المسار يبقى حزباً له ثقله لدى النخب المثقّفة، باعتباره امتداداً لحركة التجديد (الحزب الشيوعي التونسي)، أحد أقدم الأحزاب التونسيّة.
في ظلّ هذه الخلافات الداخليّة، وتخلي بعض الأصدقاء عن "النداء"، تُعتبر حركة النهضة المستفيد الأكبر ممّا يجري، فقد حافظت على تماسكها على الرغم من الخلافات الداخليّة، وهي تمتلك كل الخيوط الضرورية لتموقع سياسي ناجع، وهو ما بدا واضحاً في تصريحات رئيس مجلس شورى الحركة فتحي العيادي، الذي أكّد استعداد النهضة للمشاركة في الحكومة المقبلة، لكنّها ستناقش مسألة تحييد الوزارات السيادية (الخارجية والداخلية والدفاع والعدل). ومن شان ذلك أن يحوّل هزيمتها في الانتخابات التشريعيّة إلى انتصار مضاعف، فهي لن تتولى الحكم ظاهرياً، لكنها ستتحكّم بقيادته من خلف الستار، الأمر الذي يحوّل الضغط من منطقتها إلى منطقة خصمها، "نداء تونس". ويحدث ذلك كلّه في وقت يعيش فيه الأخير، مخاضاً كبيراً، ليبقى التساؤل حول مدى قدرته على تجنّب الانقسام والتشظي، بانتظار عقد مؤتمره في شهر يوليو المقبل، علماً أنّ مبررات وحدة صفوفه، أي معارضة النهضة والمحافظة على النموذج المجتمعي التونسي، باتت غير ذي معنى، خصوصاً إذا اكتمل تحالفه مع "النهضة"؟