تونس.. لحظة القبض على فرخ الدجاج

22 ديسمبر 2014

تظاهرة في شارع الحبيب بورقيبة ضد عودة رموز الاستبداد(24أبريل/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -

كانت رحلة مرعبة في بيت الصابون والكهرباء، وزنزانات أخرى يُعلّق فيها المساجين على هيئة الدجاج المصليّ، أو ما يسمّى في معجم الجلاّدين "الروتي"، باللّسان الفرنسيّ. ويضمّ ذلك المعجم مصطلحات كثيرة عن فنون التعذيب البدائيّة والعصريّة التي تستأنس بالتكنولوجيا، وتعبّر عنها الكُنى التي يُنادى بها زبانية العذاب مثل "بوكاسا والبخش وحلاس وإيزو ورامبو وكاجيبي والكمبيوتر"... وكلّ هؤلاء ضبّاط وموظّفون، يتقاضون رواتب من الدولة في مقابل جرائم بشعة يقترفونها في دهاليز وزارة الداخليّة التونسيّة، وفي طوابقها، على مقربة من مكتب الوزير الذي يطلّ على شارع الحبيب بورقيبة، بمقاهيه الصاخبة وعصافيره المغرّدة.

استمعت بألم ودهشة، إلى رجال ونساء مرّوا بتلك الزنزانات، في ندوة نظّمها مركز دراسة الإسلام والديمقراطيّة، عنوانها "جلسة استماع لضحايا الاستبداد" الذين سُجنوا بسبب أفكارهم، وعذّبوا ومُنعوا من العمل لتحصيل قوتهم وقوت عيالهم. وعوقب كلّ مَن ساعدهم بصدقةٍ، جاراً كان أو صديقاً أو ذا قرابةٍ دمويّةٍ. هكذا روت سيّدة سجنت، أكثر من عشر سنوات، بتهمة الانضمام لجمعيّة غير مرخّص لها. وقضت مدّةً تعادلها في متاهات ما يسمّى بالمراقبة الإداريّة، حيث يلتزم السجين المحرّر بزيارة مراكز الأمن يوميّاً، للإمضاء على دفتر الحضور، حسب مواعيد مضبوطةٍ تسلبه حريّة التنقّل، وتتسبّب في حرمانه من تحصيل رزقه... وفي نهاية شهادتها، فاجأتنا المتحدّثة بالقول إنّ الشرطيّ الذي كُلّف بمراقبتها، اقتحم، يوماً، بيتها، ودخل رأساً إلى المطبخ، لمعاينة فرخ الدجاج، والقبض عليه، متلبّساً بالتسلّل إلى طعامها الذي لا يعرف مذاق اللحم إلاّ نادراً.. وبعد سينٍ وجيمٍ عن مصدر ذلك الفرخ، تمّ اقتياد "المجرمة"، إحدى قريباتها، من قرية بعيدة، للتحقيق معها حتّى تتوب توبة نصوحاً ولا تكرّر فعلتها مرّة أخرى... ومن الفظاعات الأخرى ما روته عن التعذيب الذي مورس على أمّها، عندما جاءت
يوماً لزيارتها، فأطلق عليها أحد رجال الشرطة كلبَيْن شرسَيْن، ليتسلّى بمشهدٍ مثيرٍ أضحكه وأبكانا. في تلك اللحظة، لم نعد نتحمّل عنف المشهد الماثل أمامنا، فوقفنا تحيّةً وإجلالاً لتلك السيّدة التي شرقت بدموعها، ولم تعد قادرة إلاّ على البكاء، وهي تواجه جزءاً مريراً من ذكرياتها الجريحة.

كانت القصص صادمة إلى أبعد حدّ، لكنّها مألوفة لدى المناضلة سهام بن سدرين التي شاركت في الندوة، بصفتها رئيسة لهيئة الحقيقة والكرامة، الهيكل الذي يعتبر من أهمّ منجزات الثورة التونسيّة والعدالة الانتقاليّة، وقد باشر عمله في العاشر من الشهر الجاري، ديسمبر/ كانون الأوّل الموافق ذكرى الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان. وتتمثّل مهمّته في قبول الملفات المتعلّقة بالانتهاكات الجسيمة، كالقتل والتعذيب والاختفاء القسري، إضافة إلى تزوير الانتخابات والفساد المالي على امتداد سنوات حكم الرئيسين السابقين، الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

غير أنّ هذه الهيئة مُقبلة على تحدّيات كثيرة. وهي تتعرّض، منذ فترة، إلى مضايقاتٍ، أدّت إلى استقالة عضوين من طاقمها، وتهديدات بحلّها في تصريحات متسرّعة لقياديّين من "نداء تونس"، الحركة التي تشيع، منذ فوزها في الانتخابات التشريعيّة، أنّ الهيئة ستنحرف، بمهمّتها، إلى ما يشبه الانتقام من مسؤولي النظام السابق، ومن بينهم مرشّحها للرئاسة قايد السبسي، فله ملفّات ثقيلة تخصّ الفترة التي كان فيها وزيراً للداخليّة، حيث زُوّرت انتخاباتٌ، وقُتِل معارضون تحت التعذيب. ولذلك، يتّهمه خصومه بالعمل على عودة الاستبداد وتعطيل المؤسسات التي ستعمل على إصلاح المفاسد القديمة، وجبر الأضرار وإعادة الحقوق إلى أصحابها. وليس ذلك مستبعداً، بناءً على ما تقدّم ذكره من تصريحات "الندائيّين"، والشعارات التي يرفعونها، وجلّها يؤكّد على ضرورة دعم المنظومة الأمنيّة بمسمّيات خدّاعة، من قبيل "تعزيز أمن المواطنين"، واسترجاع "هيبة الدولة". ومن البراهين التي تثبت هذا النهج، ما وقع أخيراً في سياق يتعلّق ربّما بهيبة الدولة وخطورة التجرّؤ على خدش صورتها. فقد منع المشرفون على أيام قرطاج السنمائيّة، الفيلم التونسيّ "صراع" من المشاركة في المهرجان، ورفضوا عرضه، ولو هامشيّاً، لأنّه يحاسب الدولة التونسيّة على صفحات سوداء من تاريخها.

كان المهرجان مسيّساً من دون شكّ، فقَهَرَ المخرجَ المنصف بربوش، صاحب فيلم "صراع"، بإقصاء غير مبرّر، وكَافَأَ المخرج نصر الدين السهيلي، الذي عرفناه سابقاً بمعارضته "البطوليّة" حكومة الترويكا، عندما هاجم وزير الثقافة الأسبق، وألقى عليه بيض الدجاج. وعرفناه أخيراً في مهرجان قرطاج بفيلم عن المثليّين، غاية في الرداءة، بشهادة نقّاد محايدين، على الرغم من ترحيب الجمهور، وجلّه من أنصار الجبهة الشعبيّة، إذْ حضرت شعاراتها السياسيّة بكثافة، والبعرة تدلّ على البعير، (والبيض يدلّ على الدجاج وفراخه). ولنا في القياس قصاص، "فاعتبروا يا أولي الألباب"، واعلموا أنّ الاستبداد قد يعود في ثوب جديد، بواسطة الانقلابات، كما وقع في مصر، وعن طريق الانتخابات، كما يجري في تونس. ونحن في انتظار النتائج: "فإمّا حياة، وإمّا فلا"، كما تعلّمنا من شعرائنا الذين أبدعوا في تصوير "صراع" الشعوب المقهورة ضدّ المستبدّين الطغاة. فتأمّلوا في الختام قول الشاعر العظيم أبي القاسم الشابي:

ألا أيّها الظالم المستبدّ/ حبيب الظلام عدوّ الحياه.

سخرتَ بأنّاتِ شعبٍ ضعيفٍ/ وكفّك مخضوبة من دماه.

حذار فتحت الرماد اللهيب/ ومَن يبذر الشوك يجنِ الجراح.

42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.