تونس.. عن فلسفة الإضراب والحوار

04 ديسمبر 2018
+ الخط -
أجاب رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، على أسئلة النواب ومقترحاتهم بشأن مستقبل علاقة الحكومة مع الاتحاد العام التونسي للشغل، بأن الحوار سيتم استئنافه بينهما للتوصل إلى حلول قبل تنفيذ الإضراب العام يوم 17 يناير/ كانون الثاني الحالي. ما يؤكد تصريحا سابقا لوزير الشؤون الاجتماعية، محمد الطرابلسي، بالمعنى نفسه، مضيفا أن كل إضراب هو "نافذة جديدة للحوار والمفاوضة والوصول إلى توقيع اتفاقات ترضي الأطراف المتفاوضة".
الملاحظ، وعلاوة على ما أكده رئيس الحكومة والوزير، أن مجمل تدخلات النواب أجمع على شرعية إضراب 22 نوفمبر (تشرين الثاني)، والخاص بالوظيفة العمومية، باعتباره حقا يتنزل في صميم فلسفة الحوار الاجتماعي بين النقابة والحكومة. وفي رسم مؤشرات الجدل حاليا بشأن فلسفة ثنائية الإضراب والحوار، يمكن القول إن الإضراب أصبح تونسيا من أشكال الارتقاء بالممارسة الديمقراطية التي تسعى كل الأطراف إلى توطينها، بما يضمن السلم الاجتماعي والانتقال الديمقراطي. وانطلاقا من هذه المحصلة، وحفرا في فلسفة هذه الثنائية، تلتقي الحكومة والمركزية النقابية حول مرتكزاتٍ مهمةٍ، تكمن في ما يلي:
أن النقابة أصبحت في الرؤية التونسية الحديثة هي المفاوضة، وأن أي منع لحق التفاوض 
يعني، في العمق، حرمانا من حق الوجود، فالتفاوض اعتراف بالمؤسسة النقابية، وهو السبيل الأوحد للحوار وبالتالي للاتفاق. ويعزز هذا المعطى الاتفاقية عدد 87 ضمن الاتفاقيات الثماني الأساسية لمنظمة العمل الدولية، وجاءت الاتفاقية 98 مكملة لهذا الحق. وبالتالي، كل الدول الأعضاء في هذه المنظمة الدولية ملتزمة قانونا بالاتفاقيتين، واللتين صادقت عليهما تونس مباشرة بعد الاستقلال (1956)، وهما تتعلقان بالحق في التنظم وفي المفاوضة. وعلى الرغم من غياب اتفاقية تنص صراحة على الحق في الإضراب ضمن الاتفاقيات الثماني لمنظمة العمل الدولية، فإن أدبيات المنظمة وقرارات لجنة المعايير، علاوة على ما جاء من معطيات في إطار لجنة الحقوق والحريات النقابية، تعاملت مع الإضراب باعتباره حقا نقابيا، وفق القوانين المنظمة له في كل بلد عضو.
ويؤكّد وزير الشؤون الاجتماعية، وهو خبير دولي في هذا الملف، في أكثر من مناسبة، الارتباط العضوي بين الحق في المفاوضة والحق في الإضراب. بل يرى أكثر من ذلك، باعتبار الإضراب امتدادا للتفاوض "فلا معنى للمفاوضة والحوار الاجتماعي، إذا سلبنا من النقابات حقها في الإضراب. ولذلك، علينا أن نتعامل مع الإضراب تماما مثل تعاملنا مع الحق في المفاوضة والحوار، على اعتبار أنهما حقان لا ينفصلان".
ويمكن القول إن إضراب الوظيفة العمومية أخيرا يتم أول مرة بعد الاستقلال، وقد تنزل في الإطار أعلاه، وكان نموذجا للتعامل الحضاري، من خلال حسن التنظيم والتأطير من المركزية النقابية والدولة. وجاء الإضراب ليؤكد عراقة ثقافة المنظمة الشغيلة وتقاليدها في تنظيم الإضرابات، وقد راكم نضالات هذه المنظمة من أجل استقلال البلاد، ثم حماية لمكتسبات الاستقلال، ودفاعا عن حق المنتسبين إليها في العيش الكريم الآمن. كما عزّز صورة تونس الديمقراطية، فلا قمع ولا حملات إعلامية باتجاه الطرفين، ولا تجاوزات من المضربين في الشارع والساحات.
فصل هذا الإضراب بين مرحلتين في التفاوض الذي شهده القطاع الخاص أو المؤسسات العمومية، ولم تشهد مفاوضات الوظيفة العمومية النجاح الذي شهده هذان القطاعان إلى الآن، انطلاقا من معطياتٍ، أهمها تضخم عدد الموظفين في سنوات بعد الثورة (من 430 ألفا إلى 
670 ألف موظف) وإكراهات الضغوط على المالية العمومية، وما يشهده الوضع الاقتصادي العام من صعوبات في الإنتاج والتضخم (7.6/%)، علاوة على الالتزامات للحكومات السابقة مع معايير الحوار مع المؤسسات الدولية المانحة. وقد أفاد رئيس الحكومة، في ردوده على نواب مجلس الشعب، بأن "مؤشرات في الوضعين الاقتصادي والاجتماعي تبرز تحسنا في مجالات، وصعوبات في مجالات أخرى تدفع الحكومة اليوم إلى أن تضع في سلم أولوياتها معالجة التضخم والعجز التجاري وسعر الصرف، عبر جملة من الإجراءات الواردة في مشروع قانون المالية لسنة 2019". وفي المحصلة، جاءت تصريحات جديدة لوزير الشؤون الاجتماعية لتؤكد استئنافا قريبا جدا للحوار في أجواء وسياقات تفاؤلية، للوصول إلى توقيع اتفاقات ترضي جميع الأطراف، قبل 17 يناير/ كانون الثاني المقبل، التاريخ المعلن من المركزية النقابية للإضراب العام.
ومهما يكن من أمر، طوت تونس نهائيا سياقات الإضرابات التي شهدتها البلاد سنتي 78 و85 من القرن الماضي، والتي أدت إلى المحاكمات والسجون والمصادرات للحق النقابي وفرض مليشيات تابعة للحزب الحاكم على رأس النقابات. ولعل قيام المجلس الوطني للحوار الاجتماعي الذي أعلن تأسيسه، قبل أيام، جاء ليجعل لهذا الحوار والتفاوض مؤسسة قائمة الذات، تنظم آلياته وتوزع مسؤولياته وأدواره بين مختلف الأطراف الاجتماعية والحكومة، بما يؤشر إلى تتويج سياسة اجتماعية تميزت بها تونس، وستظل من معالم نجاحاتها اجتماعيا وسياسيا، تُضاف إلى منجزات دولة القانون والمؤسسات، وقد جاء هذا التتويج نتيجة حتمية، إيمانا بفلسفة الحوار والتفاوض.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي