انطلقت السنة السياسية الجديدة في تونس في أجواء يغلب عليها التفاؤل الحذر، على الرغم من النسق التصاعدي الذي تشهده من جديد جائحة كورونا. انطلق الوزراء في أعمالهم تحت ضغوط شديدة من الرأي العام الذي له انتظاراته العاجلة، إلى جانب محاصرة ملحوظة من قبل الأحزاب السياسية، وأيضاً استمرار حملات التشكيك في قدرة الحكومة على الصمود والبقاء، إذ يتوقّع لها البعض أن تسقط بعد أربعة أشهر فقط. في هذه الأجواء الحساسة، كشفت مؤسسة "أمرود كونسلتينغ" المتخصصة في سبر الآراء، عن نتائج استطلاعها الأخير في 7 سبتمبر/ أيلول الحالي؛ فلو نظمت انتخابات رئاسية الآن لحصل الرئيس التونسي قيس سعيد على 56 في المائة من الأصوات، وتأتي بعده عبير موسي بـ17 في المائة، في حين يكون في آخر السلّم محمد عبو، الذي استقال أخيراً من منصب الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي"، وذلك بنسبة 2 في المائة. لا يزال سعيّد متصدراً النوايا الانتخابية، لكنه في المقابل فَقَد أكثر من عشر نقاط خلال السنة الأولى من توليه رئاسة الدولة. وهو مؤشر لا يمكن التقليل من دلالاته، على الرغم من استمرار شعبية الرجل، وفي المقابل تصاعد الانتقادات الموجهة إليه. فحتى الذين استمروا في دعمه، يطالبه العديد منهم بإنجازات فعلية وملموسة على أرض الواقع.
فقد سعيّد أكثر من عشر نقاط خلال السنة الأولى من توليه رئاسة الدولة
من بين هؤلاء الذين خرجوا من حالة الصمت زميله السابق في كلية القانون، أستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور، الذي نشر مقالاً في الثامن من سبتمبر/ أيلول الحالي، ليس عادياً في أسلوبه ودلالاته، وهو الذي يعتبره الكثيرون "أحد مراجع القانون الدستوري في تونس". مقال قد يثير ردود فعل واسعة خلال الأيام المقبلة.
أقرّ بن عاشور بوجود أزمة دستورية حين أكد على أنّ أعضاء المجلس الوطني التأسيسي "أقاموا نظاماً هجيناً ومعقّداً شبيهاً بالنظام المجلسي، وهو أخطر أنواع الأنظمة". بدا في هذا السياق كأنه يسير على الخط نفسه الذي تحدّث عنه قيس سعيّد، لكنه سرعان مع انقلب عليه حين اعتبر أنّ "من المفارقات العجيبة أن نرى الذين ابتعدوا دائماً عن مقاومة الديكتاتورية والذين تهرّبوا من كلّ مطالبة احتجاجية، يصبحون اليوم بكلّ غرور وافتتان، المتحدثين باسم الثورة وعرّابيها"، في إشارة ضمنية إلى أنّ سعيّد لم يكن من بين الشخصيات التي قاومت النظام السابق. ورأى أنّ ما يجري حالياً هو بمثابة "التأثير المخادع للشعبوية: بناء الوهم بغية كسب تعاطف جمهور الناخبين المنهك والمحبط من سنوات ما بعد الثورة الكئيبة"، وقال: "آمل أن ينتهي المطاف بهذا الفكر في تونس إلى الاندثار بفعل تناقضاته". ولم يستبعد بن عاشور أن يقدم مؤيّدو نظرية "البناء الجديد" على "النزول إلى الشارع، إذا فشل هذا المشروع، ولمَ لا يُحرق قصر البرلمان (شاهد على نهاية الديمقراطية مع الحقبة النازية) حتّى يكون لإرادة الشعب ما تنتقم منه"، على حد تعبير بن عاشور.
لا يكترث أنصار سعيد بالانتقادات الموجهة للشخصية الرمزية التي يلتفون حولها ويواصلون الدفاع عنها باستماتة. هم يعتبرون أن المناهضين لنظرية "الشعب يريد" بمثابة حطب الثورة المضادة. لا يلتفتون إليهم، ويواصلون طريقهم على الرغم من الصعوبات والعراقيل الفعلية التي تحول دون تحقيق ما يسعون إليه.
"الحزب الدستوري الحر" يواصل قضم المساحة الانتخابية التي كانت تنفرد بها حركة "النهضة"
أمّا الوجه الآخر من التحديات التي أكدها من جديد استطلاع الرأي المشار إليه أعلاه، فهو أنّ "الحزب الدستوري الحر" يواصل قضم المساحة الانتخابية التي كانت تنفرد بها حركة "النهضة". فالاستطلاع الأخير يرسّخ مسيرة التدحرج نحو الاستقطاب الثنائي داخل الحياة السياسية. فهذا الحزب المدافع عن زين العابدين بن علي، يتوقّع أن تتقدم حركة "النهضة" خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة في حال حُل البرلمان ونُظمت انتخابات سابقة لأوانها. هذا الاحتمال ليس جديداً، لكنه يبقى ضعيفاً، إذ لا يزال موعد هذه الانتخابات بعيداً، وقد تنعكس في الأثناء متغيّرات عديدة على المشهد السياسي في تونس.
ما هو مؤكد أنّ حركة "النهضة" التي تعتبر نفسها الأقوى على الساحة، تمرّ بتحديات عديدة لم تعد خافية على أبنائها، وهي تدرك أنها تتراجع تدريجياً أمام منافسيها، وخصوصاً أنصار النظام السابق. فالمشهد الحزبي يشهد تقلبات عاصفة، وقد يتمخّض عن تضاريس جديدة. وما يحصل في البرلمان أمر يثير الاهتمام. هناك انقسام بين أعضاء مجلس النواب، حيث تشكّل ائتلاف واسع يستند إلى "النهضة" و"قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة" ومجموعات أخرى صغيرة، في مقابل ائتلاف آخر يضمّ "الكتلة الديمقراطية" وحزب "تحيا تونس" وغيره من مجموعات صغيرة. وقد اعتبر هذا التكتل نفسه "المعارضة" من دون أن يضم بين مكوناته حزب عبير موسي. لكن من بين المشاكل التي تواجه هذا الائتلاف المعارض أنه في حاجة إلى توضيح استراتيجيته وتحديد أولوياته، وضبط عناصر الاتفاق بين مكوناته، وعليه بالخصوص أن يحدد هل سيكون معارضاً للحكومة أم معارضاً لـ"النهضة" وحلفائها؟